** يسن إذا قضى حاجته في فضاء أن يستتر ويبعد، لحديث المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- قال: (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فقال يا مغيرة خذ الإداوة -إناء صغير-، فأخذتها فانطلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى توارى عني، فقضى حاجته وعليه جبة شامية، فذهب ليخرج يده من كمها فضاقت، فأخرج يده من أسفلها، فصببت عليه فتوضأ وضوءه للصلاة ومسح على خفيه ثم صلى) [خ 363، م 274]
وعن المغيرة بن شعبة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ذهب المذهب أبعد) [ن 17، ت 20، د 1، جه 331، وصححه الألباني]
واستتار البدن مستحب، وقد ثبت عن عبد الله بن جعفر -رضي الله عنه- قال: (أردفني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم خلفه، فأسر إلي حديثا لا أحدث به أحدا من الناس، وكان أحب ما استتر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لحاجته هدف أو حائش نخل -يعني حائط نخل-) [م 342] والهدف كل ما ارتفع من بناء ونحوه.
** استحب الفقهاء أن يرتاد لبوله مكانا رخوا، لئلا يعود الرذاذ عليه، وقد جاء في هذا حديث ضعيف عن أبي موسى -رضي الله عنه- قال: (كنت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم فأراد أن يبول فأتى دمثا في أصل جدار فبال، ثم قال صلى الله عليه وسلم إذا أراد أحدكم أن يبول فليرتد لبوله موضعا) [د 3، وضعفه الألباني]، وقد قسم المالكية أماكن قضاء الحاجة إلى أربعة أقسام:
1- أن يكون المكان طاهرا صلبا، فيجلس عند قضاء الحاجة لئلا يتطاير عليه شيء.
2- أن يكون المكان نجسا صلبا، فلا يبول.
3- أن يكون المكان طاهرا رخوا كالرمل، فيخير بين الجلوس والقيام، والجلوس أولى لأنه أستر.
4- أن يكون المكان نجسا رخوا، فيقوم في البول ولا يتغوط.
وقد نظم ذلك الونشريسي في قوله:
بالطاهر الصُّلب اجلسِ وقم برخـوٍ نجــسِ
والنجسُ الصلبُ اجتنبْ واجلس وقم إن تعكس
** يكره أن يبول في شق ونحوه، وهذا متفق عليه بين العلماء كما قال النووي، والدليل على ذلك حديث عبد الله بن سَرْجِس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا يبولن أحدكم في جحر) قالوا لقتادة وما يكره من البول في الجحر قال: يقال إنها مساكن الجن [حم 20251، ن 34، د 29]
والحديث صححه ابن خزيمة وابن السكن، وضعفه الشيخ العودة في شرحه لبلوغ المرام لعنعنة قتادة وهو مدلس، لكن أثبت علي بن المديني سماع قتادة من عبد الله بن سرجس، ومن علم حجة على من لم يعلم، وقد قال شيخنا أقل أحواله أن يكون حسنا.
وقد ذكر بعض أهل التاريخ أن سعد بن عبادة بال في جحر فخرّ ميتا فسمعوا قائلا يقول:
نحن قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة * رميناه بسهمين فلم يخطىء فؤاده
لكن هذه الرواية لا تصح.
وقد قيل إن العلة في ذلك خوف خروج الدواب والهوام عليه، وهذا أصح.
** يحرم قضاء الحاجة في الطريق، لقول الله تعالى {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا}، ولحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعا: (اتقوا اللَّعَّانَيْنِ، قالوا: وما اللعانان يا رسول الله؟ قال: (الذي يتخلى في طريق الناس أو ظلهم) [حم 8636، م 269]
وفي سنن أبي داود: (اتقوا الملاعن الثلاث البراز في الموارد وقارعة الطريق والظل) [د 26، جه 328، أعله الحافظ في التلخيص بالانقطاع، وذكر الشيخ سلمان العودة أن فيه علة ثانية، وهي جهالة أبي سعيد الـحِمْيَرِي وحسنه الألباني في الإرواء 1/100]، ومعنى اللعانان الأمران الجالبان للعن.
وعن حذيفة بن أسيد -رضي الله عنه- مرفوعا: (من آذى المسلمين في طرقهم وجبت عليه لعنتهم) [طب 3050، وحسنه الشوكاني في السيل الجرار وذلك المنذري، وحسنه الألباني]
والعلة في ذلك أن البول في الطريق أذية للمارة، وإيذاء المؤمنين محرم لقوله تعالى {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا}، والطريق ينقسم إلى قسمين:
أولا: الطريق المعين المحدد، وهذا لا إشكال في حرمة قضاء الحاجة فيه سواء كانت بولا أو غائطا.
ثانيا: أن يكون له جوانب مهيأة لقضاء الحاجة كطرق السفر، فالإنسان ينتحي منها ناحية، فلا حرج عليه أن يقضي حاجته في مثل تلك الأماكن.
** يحرم قضاء الحاجة في الظل النافع، والدليل قوله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث السابق: (أو ظلهم) يعني الظل الذي هو محل جلوسهم وانتفاعهم بذلك، والدليل على أن المقصود بالظل هو الظل النافع حديث عبد الله بن جعفر قال: (أردفني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم خلفه فأسرّ إلي حديثا لا أحدث به أحدا من الناس وكان أحبَّ ما استتر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لحاجته هَدَف أو حائش نخل) والهدف كل ما ارتفع من بناء ونحوه، وحائش النخل أي حائط نخل. [م 342]، ومن المعلوم أن الحائط له ظل، لكنه ظل لا يستخدمه الناس، وقال بعض أهل العلم مثله مثل مشمس الناس في أيام الشتاء، يعني الذي يجلسون فيه للتدفئة، وهذا قياس صحيح جلي، ومثله أيضا الشجرة التي عليها ثمرة، لأنه قد يحتاج الناس إلى الصعود على الشجرة، أو قد تسقط الثمرة فتلاقي محلا نجسا.
** يحرم أن يقضى حاجته بين القبور، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الجلوس عليها، فقضاء الحاجة من باب أولى، ولأن قبور المسلمين محترمة، وما بين القبور ممشى للناس.
** يسن أن يقول إذا أراد دخول الخلاء (بسم الله اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث)، أما البسملة فلحديث علي -رضي الله عنه- مرفوعا: (ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا دخل أحدهم الخلاء أن يقول بسم الله) [ت 606، جه 297، قال الترمذي: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وإسناده ليس بذاك القوي وقد روي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أشياء في هذا"، وقال الألباني: صحيح]
وأما الدعاء "اللهم إني أعوذ بك " الخ، فلحديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل الخلاء قال: (اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) أخرجه السبعة، والخبث بضم الخاء والباء معناه ذكور الشياطين والخبائث إناثهم، وضبطه بعضهم بإسكان الباء، ومعناه الشر، ويكون معنى الخبائث أهل الشر، وإذا دار الأمر بين معنيين أحدهما أعم والثاني أخص، فإننا نأخذ بالأعم، فتقدم رواية التسكين.
** يسن أن يقدم رجله اليسرى عند دخول الخلاء، ويقدم رجله اليمنى إذا خرج، وهذه مسألة قياسية، فاليمنى تقدم عند دخول المسجد كما جاءت السنة بذلك، واليسرى عند الخروج منه، وهذا عكس المسجد، وهذا محل اتفاق بين العلماء.
** اختلف العلماء في حكم دخول الخلاء بشيء فيه ذكر الله تعالى، على ثلاثة أقوال كلها روايات عن الإمام أحمد:
القول الأول: أنه يكره الدخول بشيء فيه ذكر الله تعالى، بل قال في الإنصاف: "قال في الفروع: وجزم بعضهم بتحريمه كمصحف، قلت: أما دخول الخلاء بمصحف من غير حاجة فلا شك في تحريمه قطعا، ولا يتوقف في هذا عاقل"، ودليل الكراهية ما يأتي:
1- حديث أنس -رضي الله عنه- قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء وضع خاتمه) [د 19، وقال الألباني: منكر] فقد كان نقش خاتمه -صلى الله عليه وسلم- (محمد رسول الله)
وأجيب بأن الحديث ضعيف، وقد قرر ابن القيم أن أحاديث نزع الخاتم المكتوب عليه اسم الله إذا دخل الخلاء غير صحيحة.
2- ما سيأتي من كراهية أن يتلفظ في الخلاء بشيء من ذكر الله، فإنه أولى من ذلك أن يكون الشيء مكتوبا، لأن المكتوب ثابت ومستقر بخلاف التلفظ، ويدل لذلك أن الشارع نهى المحدث حدثا أصغر أو أكبر أن يمس المصحف ولم ينهه عن تلاوته بلسانه، فدل هذا على أن المكتوب أولى بالكراهة من المنطوق.
وأجيب عن هذا بمنع قياس المكتوب على التلفظ، فإن التلفظ إنشاء جديد، والإنشاء أقوى، وما استدل به في مسألة مس المصحف فيه نظر، لأن مس المصحف فعل من المكلف، والفعل إنشاء عمل، بخلاف ما هو مكتوب أصلا سابقا.
القول الثاني: أنه لا يكره ذلك، واستدلوا بحديث أن خاتم النبي -صلى الله عليه وسلم- كان نقشه (محمد رسول الله) ولم يثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه كان ينزعه فدل هذا على عدم الكراهة.
القول الثالث: أن الأولى تركه، وقد أجاز شيخنا دخول الحمام بأوراق فيها اسم الله إذا كانت مستورة.