الأحد 4 ربيع الأول 1446
المكث في المسجد
الخميس 14 أبريل 2022 2:00 مساءاً
520 مشاهدة
مشاركة

** اختلف العلماء في مكث الحائض في المسجد على قولين:

القول الأول: أنه لا يجوز لها المكث فيه، وهو مذهب الجمهور، واستدلوا بما يأتي:

1- حديث أم عطية -رضي الله عنها- أنها سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (يخرج العواتق وذوات الخدور والحُيض، وليشهدن الخير ودعوة المؤمنين، ويعتزل الحُيض المصلى) [خ 980، م 890] ورواية مسلم (أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نخرج في العيدين العواتق وذوات الخدور وأمر الحيض أن يعتزلن مصلى المسلمين)

وأجيب عن هذا الاستدلال بأن المقصود بالمصلى الصلاة، بدليل رواية مسلم عن أم عطية قالت: (أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نخرجهن في الفطر والأضحى العواتق والحُيض وذوات الخدور، فأما الحُيض فيعتزلن الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين) [م 890]

ورد بأن أكثر الروايات ذكرت المصلى بصيغ متعددة، ففي رواية (ويعتزل الحيض عن مصلاهن) [خ 351] وفي رواية (ويعتزلن مصلاهم) [خ 981]، وفي رواية (يعتزلن مصلى المسلمين) [م 890] وفي روية (وليعتزل الحيض مصلى الناس) [ن 1559]، واعتزالهم المصلى متضمن لاعتزالهم الصلاة، فيؤخذ بالروايات الأعم.

2- عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب) [د 232 من حديث عائشة، جه 645 من حديث أم سلمة، وضعفه الألباني]

والحديث صححه ابن خزيمة وحسنه الزيلعي والشوكاني وابن القطان وغيرهم، وضعفه الإمام أحمد والبيهقي وابن رشد، وقال ابن حزم إنه باطل، وبالغ في تضعيفه حتى قال في الحديث ثلاث علل:

أولها: أن فيه الأَفْلت بن خليفة، وقال بعضهم إنه مجهول، والصواب أنه ليس بمجهول، وإنما هو معروف ليس به بأس، ووثقه ابن حبان، فالصحيح أن هذه العلة ليست بعلة وأنه صدوق.

ثانيها: جسرة بنت دجاجة، يقول البخاري: عندها أعاجيب، وبالمقابل فهناك من وثقها كابن حبان والعجلي، وهما متساهلان، لكن قال ابن حجر: مقبولة، وحسن حديثها ابن القطان الفاسي، وقال الذهبي في الكاشف: وثقت، والظاهر أن هذه العبارات لا تكفي لتوثيق المرأة.

ثالثها: أن الحديث فيه شيء من الاضطراب، فقد روي عن جسرة من وجهين أحدهما عن عائشة وهو عند أبي داود، والثاني عن أم سلمة وهو عند ابن ماجة والطبراني، وفي هذا نظر.

3- عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ولا نرى إلا الحج، حتى إذا كنا بسَرِف -موضع قبل مكة- أو قريبا منها حضت، فدخل علي النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنا أبكي، فقال أنُفِست -بالضم ويجوز بالفتح- يعني الحيضة؟ قلت نعم، قال: إن هذا شيء كتبه الله على بنات آدم فافعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تغتسلي) وفي رواية: (حتى تطهري) [خ 294، 305، م 1211] وعدم طوافها بالبيت لأن طوافها يستلزم مكثها.

ورد هذا الجواب بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يعلل منع عائشة -رضي الله عنها- من الطواف بالمكث في المسجد، والنهي عن المكث أعم من النهي عن الطواف، فلو نهي عن المكث لنهي عن الطواف، لا العكس.

والتعليل بأنها منعت من الطواف لئلا تلوث المسجد يرد عليه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جعل الغاية قوله (حتى تغتسلي) ولو كانت العلة خوف تلويث المسجد لم يجعل الأمر مقيدا بالاغتسال، بل كان حتى انقطاع الحيض، وأيضا فإن الشارع قد أذن للمستحاضة في دخول المسجد والاعتكاف فيه.

4- عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ناوليني الخمرة من المسجد، قالت: فقلت إني حائض، فقال: إن حيضتك ليست في يدك) [م 298]، ووجه الدلالة أنه وافقها على أن الحائض لا تمكث في المسجد لكن لا يمنع هذا من مجرد المناولة، وقد اختلف العلماء هل المراد هنا المناولة وهي خارج المسجد، أو المرور في المسجد والإتيان بالخمرة، وعلى كلا القولين فقد وافقها النبي -صلى الله عليه وسلم- على النهي عن المكوث في المسجد واستثنى المناولة أو المرور على الاختلاف السابق.

5- عن المقدام بن شريح عن أبيه عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: (كن المعتكفات إذا حضن، أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بإخراجهن عن المسجد، وأن يضربن الأخبية في رحبة المسجد حتى يطهرن) [رواه ابن بطة، وقال في الفروع: "إسناد جيد" 3/177] بل قال في الفروع بعد ذلك: "وقال أحمد (النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر أن تضرب قبة في رحبة المسجد)، رواه ابن بطة بإسناده عن يعقوب، قال صاحب المحرر: وهذا من أحمد دليل على ثبوت الخبر عنده"

القول الثاني: أنه يجوز لها المكث فيه، وهو مذهب ابن حزم واختيار المزني، واستدلوا بما يأتي:

1- أن الأصل براءة الذمة.

2- حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعا: (إن المسلم لا ينجس) [خ 283، م 371] وفي رواية (سبحان الله يا أبا هر إن المؤمن لا ينجس) [خ 285، 371]

3- أنه يجوز للكافر دخول المسجد والمكث فيه، كما أسر ثمامة بن أثال في المسجد ثلاث ليال، فالحائض من باب أولى.

وأجيب عن هذا بعد أجوبة، منها: أن الشريعة فرقت بين الأمرين، فوجب الأخذ بذلك، ومنها أن الكافر لا يجوز له المكث في المسجد أصالة، لكن يجوز ذلك للمصلحة الراجحة كما حصل مع ثمامة بن أثال، ومنها أن الكافر لا يعتقد حرمة المسجد فلا يكلف بها بخلاف المسلم.

4- عن عائشة -رضي الله عنها-: "أن وليدة -أي أمة- كانت سَوداء لِحَيٍّ من العرب فأعتقوها فكانت معهم قالت فخرجت صبية لهم عليها وِشَاح أحمر من سُيُور -أي جلد-، قالت فوضعته أو وقع منها فمرت به حُدَيَّاةٌ -تصغير حِدَأَة ويجوز فتح الحاء حَدَأَة، وهو نوع من الطيور الجارحة- وهو ملقى فحسبته لحما فخطفته، قالت: فالتمسوه فلم يجدوه، قالت: فاتهموني به، فطفقوا يفتشون حتى فتشوا قُبُلَها، قالت: والله إني لقائمة معهم إذ مرت الحُدَياة فألقته، فوقع بينهم، فقلت: هذا الذي اتهمتموني به زعمتم وأنا منه بريئة وهو ذا هو، فجاءت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأسلمت، قالت عائشة فكان لها خباء في المسجد أو حِفْش، فكانت تأتيني فَتَحَدَّثُ عندي، قالت فلا تجلس عندي مجلسا إلا قالت:

ويومَ الوشاح من أَعاجيبِ ربنا أَلا إِنه من بلدة الكفر أنجاني

قالت عائشة: فقلت لها ما شأنك لا تقعدين معي مقعدا إلا قلت هذا قالت فحدثتني بهذا الحديث" [خ 439]، والشاهد من الحديث أن المرأة كان لها خباء في المسجد، ويجاب عن هذا الاستدلال بأمور منها:

1- أن الحديث يرد عليه احتمالات منها: أن المرأة كانت صغيرة، ولهذا تجرؤوا أن يفتشوا قبلها، ومن الاحتمالات أنها كانت كبيرة يائسة، ومنها أنها كانت إذا حاضت خرجت من المسجد، ومنها أن المنزل لم يكن داخل المسجد بل كان حوله لاصقا به فأضيف إليه، وإذا ورد الاحتمال بطل الاستدلال.

3- أنها قضية عين ترد عليها الاحتمالات، ولا يمكن أن يستدل بقضايا الأعيان لإبطال الأدلة الأخرى.

4- أن هذا الحديث لو فرض تعارضه مع الأدلة الأخرى، فإن غاية ما يقال فيه أن يجمع بين وبين الأدلة الأخرى بأن الحائض إذا اضطرت للمكث في المسجد فإنها تمكث فيه، وباب الاضطرار ليس كباب الاختيار، ولو قيل بالترجيح فإن أدلة أصحاب القول الأول مقدمة، لأن هذا الحديث أخذ حكم الجواز منه عن طريق الإشارة أو المفهوم، وأحاديث الجمهور منطوقة، والمنطوق مقدم على المفهوم عند التعارض، وأحاديث الجمهور قول، وأحاديث الخصوم فعل، والقول مقدم على الفعل، وأحاديث الجمهور حاظرة، وأحاديث الخصوم مبيحة، والحاظر مقدم على المبيح عند التعارض.

** اختلف العلماء في مكث الجنب في المسجد على أقوال:

القول الأول: أنه يحرم على الجنب المكث في المسجد مطلقا، وهو مذهب الجمهور، واستدلوا بما يأتي:

1- إذا كان يحرم على الحائض المكث في المسجد، مع أنه ليس في إمكانها رفع الحيض عن نفسها، فتحريم المكث عن الجنب وهو يملك رفع جنابته من باب أولى.

2- قول الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا}، وفي معنى الآية وجهان ذكرهما أهل التفسير:

الوجه الأول: أن معناها لا تقربوا الصلاة وأنتم جنب إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا، يعني لا تصلوا وأنتم جنب حتى تغتسلوا، إلا أن تكونوا عابري سبيل، وليس معكم ماء فيجوز لكم حينئذ أن تتيمموا وتصلوا.

الوجه الثاني: لا تقربوا مواضع الصلاة -يعني المساجد- وأنتم سكارى، ولا جنبا، أي لا تقربوا موضع الصلاة وأنتم مجنبون إلا بعد أن تغتسلوا.

وعلى الوجه الثاني يكون المعنى لا تقربوا المساجد وأنتم جنب إلا عابري سبيل، فيجوز لكم المرور دون أن تجلسوا في المسجد وتمكثوا فيه، وهذا الوجه هو الأقرب، وقد رجحه ابن جرير الطبري والشافعي والشوكاني، ويدل لذلك أمور:

الأول: أن الجنب إذا لم يجد ماء يجوز له أن يتيمم سواء كان عابر سبيل أو كان مقيما في البلد، فيكون عابر سبيل قيد لا معنى له، لأن الحكم عام للمسافر وغيره، وإن كان أغلب من يحتاج إليه المسافرون.

الثاني: أن الله تعالى قال فيما بعد {أو على سفر} إلى قوله {فلم تجدوا ماء فتيمموا} فذكر التيمم للمسافر فيما بعد، ولو كان معنى الآية كما قيل في الوجه الأول لكان في الآية تكرارا، وهذا بعيد.

الثالث: أنه على القول الأول يكون معنى الآية لا تصلوا وأنتم جنبا إلا عابري سبيل، أي بعد التيمم، ومن المعلوم أن المسافر إذا تيمم من الجنابة لم يكن جنبا، لأن التيمم يرفع حدثه، فكيف يطلق عليه أنه جنب.

الرابع: أخرج ابن جرير عن يزيد بن أبي حبيب أن رجالا من الأنصار كانت أبوابهم إلى المسجد فكانت تصيبهم جنابة فلا يجدون الماء ولا طريق إليه إلا من المسجد فأنزل الله تعالى {ولا جنبا إلا عابري سبيل} وهذا يبين أن المراد بعابري السبيل هم الذين يمرون في المسجد.

3- أن المساجد بيوت الله ومحل ذكره وعبادته ومأوى الملائكة وإذا كان آكل البصل والأشياء المكروهة ممنوعا من البقاء في المسجد فالجنب الذي تحرم عليه الصلاة من باب أولى.

القول الثاني: أنه يجوز له المكث في المسجد بشرط الوضوء، وهو مذهب الحنابلة، واستدلوا بأدلة أصحاب القول الأول، واستثنوا ما إذا توضأ لما يأتي:

1- عن زيد بن أسلم قال: "كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتحدثون في المسجد وهم على غير وضوء، وكان الرجل يكون جنبا فيتوضأ، ثم يدخل المسجد فيتحدث" [ابن أبي شيبة مختصرا 1/172، وضعفه في نيل الأوطار 1/286، وقال في التحجيل في تخريج ما لم يخرج في إرواء الغليل: "إسناده جيد"] وفي عون المعبود: "روى سعيد بن منصور في سننه عن عطاء بن يسار قال: رأيت رجالا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجلسون في المسجد وهم مجنبون إذا توضؤا وضوء الصلاة، قال ابن كثير هذا إسناد صحيح على شرط مسلم" ا.هـ

2- أن الوضوء يخفف الجنابة بدليل حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه: (سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أيرقد أحدنا وهو جنب؟ قال: نعم إذا توضأ أحدكم فليرقد وهو جنب) [خ 287، م 306]

القول الثالث: أنه يجوز لجنب وللحائض المكث في المسجد مطلقا، وهو مذهب الظاهرية والمزني من الشافعية، واستدلوا بما سبق بيانه في مسألة مكث الحائض في المسجد.

والأقرب أنه لا يجوز للمحدث حدثا أكبر أن يمكث في المسجد، وخفف عن الجنب فيجوز له المكث في المسجد إذا توضأ، كما يجوز له وللحائض المرور في المسجد، لقوله تعالى {إلا عابري سبيل} ولحديث مناولة عائشة النبي -صلى الله عليه وسلم- الخمرة من المسجد.

** اختلف العلماء في مرور الجنب والحائض في المسجد على قولين، فذهب الحنفية والمالكية إلى تحريم مرور الحائض والجنب في المسجد، واستدلوا بإطلاق الأدلة، إلا أنه يباح لهما المرور للضرورة كالخوف على النفس والمال.

وحملوا قوله تعالى {ولا جنبا إلا عابري سبيل} على المسافر الذي لا يجد الماء فيتيمم، وعلى هذا فالمراد بقوله في الآية {لا تقربوا الصلاة} أي الصلاة نفسها

وذهب الشافعية والحنابلة إلى جواز مرور الجنب في المسجد لحاجة أو لغير حاجة، وكذلك جواز مرور الحائض بشرط أن تأمن تلويث المسجد فإن خافت تلويثه حرم عليها المرور . [الموسوعة الكويتية 14/63]