الأحد 4 ربيع الأول 1446
صفة الغسل
الأربعاء 20 أبريل 2022 2:00 مساءاً
493 مشاهدة
مشاركة

** للغسل صفتان صفة إجزاء وصفة كمال، فأما صفة الإجزاء فيجب فيها أمران النية وتعميم البدن بالماء، وتعميم البدن يشمل المضمضة والاستنشاق عند الحنفية والحنابلة، وذهب المالكية والشافعية إلى أنهما سنتان كما سبق بيانه في الوضوء، وهو قول قوي، لأن الأوامر التي جاءت في الأمر بالمضمضة والاستنشاق إنما وردت في الوضوء، أما الغسل فإن عدة أدلة تدل على أنهما غير واجبين فيه، ومن ذلك ما يأتي: 

1- عموم قوله تعالى {ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا}، وقوله تعالى {وإن كنتم جنبا فاطهروا} ولم يذكر سوى الغسل، وهو لغة لا يدخل فيه المضمضة والاستنشاق.
2- عن عمران بن حصين -رضي الله عنه- في حديث طويل: (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- شرب هو وأصحابه من مزادة امرأة مشركة، وأعطى الذي أصابته الجنابة إناء من ماء المزادة، وقال: اذهب فأفرغه عليك) [خ 344، م 682]

3- حديث أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: (قلت يا رسول الله: إني امرأة أشد ضفر رأسي، فأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: لا إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين) [م 330]

وأما صفة الكمال فأشهر حديثين في الباب حديثا عائشة وميمونة -رضي الله عنهما-:

1- عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (كان إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه، ثم يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يأخذ الماء فيدخل أصابعه في أصول الشعر، حتى إذا رأى أن قد استبرأ، حفن على رأسه ثلاث حفنات، ثم أفاض على سائر جسده) [خ 248، 273، م 316] واللفظ لمسلم، وفي لفظ للبخاري: (ثم يدخل أصابعه في الماء فيخلل بها أصول شعره، ثم يصب على رأسه ثلاث غرف بيديه، ثم يفيض الماء على جلده كله) [خ 248] وفي رواية: (ثم يخلل بيده شعره حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته، أفاض عليه الماء ثلاث مرات، ثم غسل سائر جسده) [خ 273] وفي رواية: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة دعا بشيء نحو الحِلاب -إناء يسع قدر حلب الناقة- فأخذ بكفه فبدأ بشق رأسه الأيمن ثم الأيسر فقال بهما على وسط رأسه) [خ 258، م 318]

أما ورد في صحيح مسلم في حديث عائشة -رضي الله عنه- (ثم أفاض على سائر جسده ثم غسل رجليه) فظاهره أنه أخر غسل الرجلين لما بعد الغسل، لكن هذا مخالف لباقي روايات حديث عائشة أن غسل القدمين كان مع الوضوء، حيث قالت (يتوضأ وضوءه للصلاة)، والذي ورد فيه أنه أخر غسل القدمين بعد الوضوء حديث ميمونة التالي، وقد ذكر الحافظ أن هذه الزيادة تفرد فيها أبو معاوية دون أصحاب هشام، وقال البيهقي: "غريب صحيح، حفظه أبو معاوية دون غيره من أصحاب هشام من الثقات، وذلك للتنظيف"، يعني أنه أعاد غسل الرجلين للتنظيف.

وأعل هذه الزيادة الحافظ ابن رجب فقال: "وذكر أبو الفظل ابن عمار: أن هذه الزيادة ليست بمحفوظة. قلت: ويدل على أنها غير محفوظة عن هشام: أن أيوب روى هذا الحديث عن هشام، وقال فيه: (فقلت لهشام: يغسل رجليه بعد ذلك؟ فقال: وضوءه للصلاة، وضوءه للصلاة) أي: أن وضوءه في الأول كاف، ذكره ابن عبد البر.

وهذا يدل على أن هشاما فهم من الحديث أن وضوءه قبل الغسل كان كاملا بغسل الرجلين، فلذلك لم يحتج إلى إعادة غسلهما" 

وقال شيخنا في الشرح الممتع: "ورواية أنه غسل رجليه -يعني في حديث عائشة وهي في مسلم- ضعيفة" 

وقد ورد أيضا من طريق وكيع في حديث عائشة: (اغتسل من الجنابة فبدأ فغسل كفيه ثلاثا)، وقد انفرد وكيع بهذا، وباقي الرواة أطلقوا، وغسل اليدين ثلاثا جاء من حديث ميمونة الآتي.

[الشرح الممتع 1/361، فتح الباري 1/477، فتح الباري لابن رجب 1/234، سنن البيهقي الكبرى 1/268، موسوعة أحكام الطهارة 6/424] 

2- عن ميمونة -رضي الله عنها- قالت: (أدنيت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- غُسْلَهُ -بضم الغين الماء الذي يغتسل به كما قال النووي- من الجنابة، فغسل كفيه مرتين أو ثلاثا، ثم أدخل يده في الإناء، ثم أفرغ به على فرجه وغسله بشماله، ثم ضرب بشماله الأرض فدلكها دلكا شديدا، ثم توضأ وضوءه للصلاة، ثم أفرغ على رأسه ثلاث حفنات ملء كفه، ثم غسل سائر جسده، ثم تنحى عن مقامه ذلك فغسل رجليه، ثم أتيته بالمنديل فرده) [خ 265، 281، م 317] واللفظ لمسلم، وفي رواية للبخاري: (توضأ رسول الله وضوءه للصلاة غير رجليه، وغسل فرجه وما أصابه من الأذى، ثم أفاض عليه الماء، ثم نحى رجليه فغسلهما، هذه غسله من الجنابة) [خ 240]، وفي رواية للبخاري: (ضرب يده بالأرض أو الحائط مرتين أو ثلاثا) [خ 274] وفي رواية (ثم مسح بيده على الحائط أو الأرض) [خ 281]

وصفة الكمال كما يأتي: 

أولا: النية، وهي شرط عند جمهور العلماء، فإن نوى غسلا مسنونا كغسل الجمعة أجزأه عن الغسل الواجب عند الحنفية والحنابلة، وقيده بعض الحنابلة بنسيان الحدث الأكبر، والقول الثاني أنه إن نوى الغسل المسنون فقط لم يجزئه عن الغسل الواجب؛ لأن هذا الغسل لم يرد به رفع الحدث، وإن نوى غسلا واجبا أجزأه عن الغسل المسنون عند أكثر العلماء، والقول الثاني أنه لا يجزئه، أما إن نوى الغسل الواجب والمسنون معا فإنه يجزئه عن جماهير العلماء، وقد سبق بحث ذلك في مبحث: التداخل بين الغسل والوضوء.

ثانيا: التسمية، وهي سنة على الصحيح كما سبق بيانه في الوضوء، وهو إن توضأ قبل الغسل فالتسمية مستحبة وهذا ظاهر، وإن لم يتوضأ فالحنفية والشافعية على أنه يستحب له التسمية أيضا، والحنابلة يوجبون التسمية في الوضوء والغسل، ويستدلون على وجوب التسمية في الغسل بالقياس على التسمية في الوضوء، وفي وجه للشافعية أنه لا تستحب له التسمية وهو الأقرب، لأنه لم يرد ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في صفات الغسل. [المجموع 2/210] 

ثالثا: غسل اليدين كما في حديث عائشة، وهذا الغسل يكون مرتين أو ثلاثا كما في حديث ميمونة..

رابعا: غسل فرجه وما لوثه من أثر الجنابة، كما في حديث عائشة وميمونة -رضي الله عنهما-، لكن في حديث ميمونة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ضرب بشماله الأرض فدلكها) وفي رواية: (ضرب يده بالأرض أو الحائط مرتين أو ثلاثا)، والذي يظهر من حديث ميمونة أن الماء كان قليلا ولهذا لم يغسل رجليه في الوضوء في حديث ميمونة، وإنما غسلها بعد ذلك في مكان آخر، فاحتاج أن يضرب الحائط بيده مرتين أو ثلاثا ليكون أسرع في إزالة ما لوثه.

خامسا: الوضوء، لحديث عائشة وميمونة -رضي الله عنهما-، وهذا الوضوء مستحب عند جمهور العلماء، وذهب أبو داود الظاهري وأبو ثور وهو رواية عن الإمام أحمد إلى أن هذا الوضوء شرط لصحة الغسل، وسبب اختلافهم هو اختلافهم في قوله تعالى {وإن كنتم جنبا فاطهروا} هل هو مجمل أم مبين، فالجمهور على أنه مبين، ومذهب أبي ثور أنه مجمل، بينه فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد حافظ على الوضوء قبل الغسل فيكون شرطا في صحة الغسل، والصحيح مذهب الجمهور لحديث عمران بن حصين -رضي الله عنه- في حديث طويل: (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- شرب هو وأصحابه من مزادة امرأة مشركة، وأعطى الذي أصابته الجنابة إناء من ماء المزادة، وقال: اذهب فأفرغه عليك) [خ 344، م 682] 

سادسا: تخليل شعر الرأس، وحفن ثلاث حفنات على الرأس، لقول عائشة -رضي الله عنها-: (فيخلل بها أصول شعره، حتى إذا رأى أن قد استبرأ، حفن على رأسه ثلاث حفنات) وفي الرواية الأخرى: (ثم يخلل بيده شعره حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته)، وهذا التثليث في غسل الرأس لا يعمم به جميع الرأس، بل مرة للجانب الأيمن ومرة للجانب الأيسر ومرة للوسط كما فسرته الروايات الأخرى في قولها -رضي الله عنها-: (فأخذ بكفه فبدأ بشق رأسه الأيمن، ثم الأيسر، فقال بهما على وسط رأسه) [خ 258]، وإن كان بعض العلماء كالحافظ ابن رجب يرى أنه يعمم رأسه بالغسل ثلاثا، لكن يبتديء بالأيمن عند التعميم الأول، ثم بالأيسر عن التعميم الثاني، ثم يصب الثالثة على الوسطى. [موسوعة الدبيان- كتاب الحيض ص 427]

واختلف العلماء هل المرأة مثل الرجل في ذلك أم لا؟ وسبب اختلافهم ما ورد عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: (كنا إذا أصابت إحدانا جنابة أخذت بيديها ثلاثا فوق رأسها، ثم تأخذ بيدها على شقها الأيمن، وبيدها الأخرى على شقها الأيسر) [خ 277] فظاهره أن المرأة تصب على رأسها خمس مرات، ولكن هذا الاستدلال يتوقف على أمرين:

الأول: أن قول الصحابي (كنا إذا) له حكم الرفع.

والثاني: أن هذا ليس لأجل تيقن وصول الماء إلى الرأس.

وقد جاء ما يشير إلى ذلك عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتوضأ وضوءه للصلاة ثم يفيض على رأسه ثلاث مرات، ونحن نفيض على رءوسنا خمسا من أجل الضَّفْر) [حم 25025، د 241، جه 574، وضعفه الألباني والدبيان]، والأقرب أن المرأة كالرجل، ويدل لذلك حديث أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: (قلت يا رسول الله: إني امرأة أشد ضفر رأسي، فأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: لا إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين) [م 330]، وحديث عائشة -رضي الله عنها-: (أنه بلغها أن عبد الله بن عمرو يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رءوسهن، فقالت: يا عجبا لابن عمرو هذا! يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رءوسهن، أفلا يأمرهن أن يحلقن رءوسهن، لقد كنت أغتسل أنا ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- من إناء واحد، ولا أزيد على أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات) [م 331].

سابعا: تعميم البدن بالماء، بدليل حديث عائشة وميمونة -رضي الله عنهما-: (ثم أفاض الماء على سائر جسده)، وهل يشرع التثليث؟ جمهور العلماء على أن ذلك مشروع، وذهب المالكية وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية إلى عدم استحباب ذلك لعدم الدليل، وهو الراجح.

ثامنا: يغسل رجليه في مكان آخر، وهذه المسألة اختلف فيها العلماء، فذهب الحنفية وهو قول لكل من المالكية والشافعية ورواية عن أحمد أنه يؤخر غسل القدمين إلى تمام الغسل، ولا يغسلهما مع الوضوء، وذهب المالكية والشافعية إلى أنه يغسلهما مع الوضوء، والمشهور عند الحنابلة أنه يغسلهما مع الوضوء ويعيد غسلهما بعد تمام الغسل، وقيل -وهو الأقرب- أنه إن احتاج لتأخير غسل القدمين أخرهما، كما لو كان الماء قليلا واحتاج أن يخرج من غسله نظيف القدمين، أو كانت الأرض طينا أو نحو ذلك، إن احتاج إلى ذلك كما في حديث ميمونة -رضي الله عنها-: (ثم تنحى فغسل قدميه)، ولم يغسل رجليه في حديث عائشة بعد الغسل كما سبق.

** هل يجب على المرأة نقض شعر رأسها لغسل الجنابة والحيض؟ فيه خلاف بين العلماء:

القول الأول: أنه يجب عليها أن تنقضه للغسل من الجنابة أو الحيض، وهو قول لأصحاب الإمام أحمد، واستدلوا بأن الغسل يجب أن يعمم فيه البدن بالماء وهذه القرون لا يصل إليها الماء إلا بغسلها.

القول الثاني: أنه لا يجب عليها ذلك، لا في غسل الجنابة ولا الحيض، وهذا قول الجمهور، ورجحه ابن قدامة [المغني 1/167]، وهو الأقرب، واستدلوا بما يأتي: 

1- حديث أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: (قلت يا رسول الله: إني امرأة أشد ضَفْرَ رأسي فأنقضه لغسل الجنابة -وفي رواية: للحيضة والجنابة-؟ قال: لا إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين) [م 330]

لكن ذكر ابن القيم أن زيادة "الحيضة" شاذة [تهذيب السنن 1/295، موسوعة الدبيان- الحيض 434]، وقال الحافظ ابن رجب: "هذه اللفظة -أعني لفظة: الحيضة- تفرد بها عبد الرزاق عن الثوري، وكأنها غير محفوظة، فقد رواه غير واحد عن الثوري فلم يذكروها" [فتح الباري لابن رجب 2/121] 

2- عن عائشة -رضي الله عنها-: (أنه بلغها أن عبد الله بن عمرو يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهن، فقالت: يا عجبا لابن عمرو هذا! يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رءوسهن، أفلا يأمرهن أن يحلقن رءوسهن، لقد كنت أغتسل أنا ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- من إناء واحد، ولا أزيد على أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات) [م 331] وهذا عام في الغسل.

3- عن أسماء بنت شَكَل أنها سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- عن غسل المحيض فقال: (تأخذ إحداكن ماءها وسِدْرتها -السدر النبات المعروف ويستخدم لتنظيف البدن- فَتَطَهَّر فتحسن الطُّهور، ثم تصب على رأسها فتدلكه دلكا شديدا حتى تبلغ شؤون رأسها، ثم تصب عليها الماء، ثم تأخذ فِرْصَة مُمَسَّكَةً -أي قطعة قماش فيها مسك- فَتَطَهَّرُ بها، فقالت أسماء: وكيف تَطَهَّرُ بها؟ فقال: سبحان الله تطهرين بها! فقالت عائشة -كأنها تخفي ذلك-: تَتَبَّعِين أثر الدم) [خ 314، م 332، واللفظ لمسلم]

4- عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: (كنا إذا أصابت إحدانا جنابة أخذت بيديها ثلاثا فوق رأسها، ثم تأخذ بيدها على شقها الأيمن، وبيدها الأخرى على شقها الأيسر) [خ 277]

5- عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كنا نغتسل وعلينا الضماد ونحن مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- محلات ومحرمات" والضماد ما يلطخ به الشعر ما يلبده، والمقصود أنها لا تنقض شعر رأسها. [د 254، وصححه الألباني والدبيان] 

القول الثالث: أنه لا يجب على المرأة نقض الشعر لا في الجنابة ولا في الحيض، لكن يجب ذلك على الرجل، وهو مذهب الحنفية، أما الحكم في المرأة فقد سبق في أدلة القول الثاني، وأما الرجل فاستدلوا بحديث شريح بن عبيد قال: (أفتاني جبير بن نفير عن الغسل من الجنابة أن ثوبان الهاشمي -رضي الله عنه- حدثهم أنهم استفتوا النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك فقال: أما الرجل فلينشر رأسه فليغسله حتى يبلغ أصول الشعر، وأما المرأة فلا عليها أن لا تنقضه، لتغرف على رأسها ثلاث غرفات بكفيها) [د 255، وقال الشوكاني: "وأكثر ما علل به أن في إسناده إسماعيل بن عياش، والحديث من مروياته عن الشاميين، وهو قوي فيهم فيقبل"، وصححه الألباني] 

القول الرابع: أنه يجب ذلك في غسل الحيض دون الجنابة، وهذا مذهب الحنابلة والظاهرية، واستدلوا بما يأتي:

1- عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لها وكانت حائضا: (انقضي شعرك واغتسلي) [جه 641، وصححه الألباني، وقال: "لكني أشك في صحة هذه اللفظة: واغتسلي"]، والحديث أصله في الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: (خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع موافين لهلال ذي الحجة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أراد منكم أن يهل بعمرة فليهل، فلولا أني أهديت لأهللت بعمرة، فكان من القوم من أهل بعمرة ومنهم من أهل بالحج، فكنت أنا ممن أهل بعمرة، فخرجنا حتى قدمنا مكة فأدركني يوم عرفة وأنا حائض لم أحل من عمرتي، فشكوت ذلك إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: دعي عمرتك وانقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج، قالت: ففعلت) [خ 317، م 1211] وهذا أقوى ما استدلوا به.

وأجيب عنه بأجوبة:

الأول: أن من العلماء من اعتبر هذه الرواية شاذة، وهذا اختيار الشيخ الألباني في الإرواء [1/167].

الثاني: أن أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- لعائشة بأن تنقض شعر رأسها لم يكن لغسل الحيض، وإنما كان لغسل الإحرام بالحج، ويدل لذلك أنها كانت حائضا ولم تطهر بعد، ولو كانت طاهرة لطافت للعمرة، لكن أمرها أن تغتسل وهي حائض وتهل بالحج، وهو غسل الإحرام، كما أمر أسماء بنت عميس لما نفست بذي الحليفة أن تغتسل وتهل، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (نفست أسماء بنت عميس بذي الحليفة، فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر يأمرها أن تغتسل وتهل) [م 1209، 1218، انظر شرح ابن رجب للبخاري 2/104]، ولهذا قال الحافظ ابن رجب: "وقد روى كثير من الناس الحديث بمعنى فهموه منه فغيروا المعنى، مثل ما اختصره بعضهم من حديث عائشة في حيضها في الحج أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لها -وكانت حائضا- (انقضي رأسك وامتشطي) وأدخله في أبواب غسل الحيض، وقد أنكر أحمد ذلك على من فعله لأنه يخل بالمعنى، فإن هذا لم تؤمر به في الغسل من الحيض عند انقطاعه، بل في غسل الحائض إذا أرادت الإحرام وهي حائض" [شرح علل الترمذي 1/54]

فإن قيل: إذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر عائشة في غسل الإحرام بأن تنقض شعرها، ففي غسل الحيض من باب أولى؟ فالجواب: وإذا قيل ذلك في الحيض، فكذلك الجنابة من باب أولى! والخصم لا يقرّون بذلك، ومن المعلوم أن نقض الشعر في غسل الإحرام لم يقل أحد بوجوبه، فغاية ما يقال في غسل الحيض أن نقض الشعر مستحب وليس بواجب.

الثالث: أنه في حديث عائشة نفسه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لها: (وامتشطي) ولم يقل أحد بوجوب الامتشاط عند طهرها من الحيض، فدل على أن ما قارنه يأخذ حكمه في عدم الوجوب.

2- حديث ثوبان الهاشمي السابق في دليل القول الثالث، وقالوا هو في غسل الجنابة أما الحيض فيجب أن تنقضه.

وأجيب بأن الحديث ليس فيه التصريح بوجوب نقض شعر الحائض للغسل.

** هل يجب غسل المسترسل من الشعر؟ فيه خلاف بين العلماء: 

القول الأول: أنه يجب ذلك، وهو مذهب الجمهور، واستدلوا بما يأتي: 

1- عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تحت كل شعرة جنابة، فاغسلوا الشعر وأنقوا البَشَرَ) [ت 106، د 248، جه 598، وضعفه الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير 1/248، وضعفه النووي ونقل تضعيفه عن الشافعي ويحيى بن معين والبخاري وأبو داود وغيرهم، المجموع 2/213، والحديث ضعفه الألباني] 

2- عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- مرفوعا: (من ترك موضع شعرة من جنابة لم يصبها الماء، فعل الله به كذا وكذا من النار) [حم 729، د 249، جه 599، وحسنه النووي في المجموع 1/401، وضعفه في موضع آخر 2/213، والصحيح أن الحديث لا يثبت مرفوعا كما رجحه الدارقطني وغيره، بل قال عبد الحق: الأكثرون قالوا بوقفه، وضعفه الألباني، وقال شعيب الأرنؤوط: "إسناده مرفوعا ضعيف، عطاء بن السائب اختلط بآخره، وعامة من رفع عنه هذا الحديث، فإنما رواه بعد اختلاطه"]

3- في حديث عائشة -رضي الله عنها- في صفة غسل النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (ثم يخلل بيده شعره حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض عليه الماء ثلاث مرات ثم غسل سائر جسده) [خ 273]

وأجيب بأن التخليل ليس للشعر، وإنما لأجل أن يصل الماء للبشرة، ولذلك قالت: (حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته)

4- أن شعر الرأس شعر نابت في محل الغسل فيجب غسله كشعر الحاجبين.

وأجيب بأن الحاجبان يجب غسلهما لضرورة غسل بشرتها، وكذلك كل شعر من ضرورة غسل بشرته غسله، فيجب غسله، أما المسترسل فلا علاقة له بالبشرة.

القول الثاني: أنه لا يجب ذلك، وهو مذهب الحنفية واختيار ابن قدامة من الحنابلة، وهو الراجح، واستدلوا بما يأتي: 

1- أن الأحاديث الواردة في الغسل تنص على غسل الرأس، وفرق بين غسل الرأس وغسل الشعر، ولو كان غسل الشعر واجبا لذكره النبي -صلى الله عليه وسلم- أو فعله.

2- أنه قد سبق بيان أنه لا يجب على المرأة نقض ضفائرها، ولو وجب غسل باطن الشعر لوجب نقضه.