الأحد 4 ربيع الأول 1446
طهارة المني
الخميس 12 مايو 2022 2:00 مساءاً
501 مشاهدة
مشاركة

** أجمع العلماء على نجاسة بول وغائط الآدمي الكبير، كما نقله الطحاوي وابن رشد والنووي وابن المنذر وغيرهم، ومستند هذا الإجماع ما يأتي:

1- وجوب الاستنجاء منها، مما يدل على نجاستها، ففي البول حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: (جاء أعرابي فبال في طائفة المسجد، فزجره الناس فنهاهم النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما قضى بوله أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بذنوب من ماء فأُهريق عليه) [خ 221، م 284]

وفي الغائط حديث عائشة -رضي الله عنها- مرفوعا: (إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار فليسْتطِب بها فإنها تجزي عنه) [حم 24491، ن 44، د 40، قط 147، وصححه الدارقطني، وحسنه النووي وابن الملقن، وصححه الألباني]

2- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما أمر ابن مسعود أن يأتيه بأحجار ليستجمر بها، أتاه بحجرين وروثة، فرد النبي -صلى الله عليه وسلم- الروثة وقال إنها ركس، فإذا كان الركس بمعنى الرجس، كما هي لغة بعض أهل اليمن حيث يبدلون الجيم كافا فيصح الاستدلال، وقد جاء عند ابن ماجة بلفظ (هي رجس) [جه 314، وصححه الألباني]، أما إذا كان الركس الشيء المركوس المردود، فلا يصح الاستدلال، لأنه يحتمل أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رده إما لكونه روثا نجسا كروث الآدمي، أو لكونه روث ما يؤكل لحمه وهو علف لدواب الجن، وحديث ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: (أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- الغائط فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين والتمست الثالث فلم أجده، فأخذت روثة فأتيته بها، فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال: هذا ركس) [خ 156، المجموع 2/569]

3- أنه إذا ثبت نجاسة البول فنجاسة الغائط من باب أولى، وقد يجاب عن هذا بأن استخباث الشيء طبعا لا يدل على نجاسته شرعا، فبول وروث ما يؤكل لحمه طاهر، وهو عند البعض خبيث طبعا.

** اختلف العلماء في طهارة المني على أقوال: [انظر الفتاوى الكبرى 1/407-417]

القول الأول: أنه نجس كالبول، فيجب غسله رطبا ويابسا من البدن والثوب، وهذا مذهب المالكية ورواية عن الإمام أحمد، واستدلوا بما يأتي: 

1- حديث عائشة -رضي الله عنها- قال: (كنت أغسل الجنابة من ثوب النبي صلى الله عليه وسلم فيخرج إلى الصلاة وإن بقع الماء في ثوبه) ولفظ مسلم (أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يغسل المني، ثم يخرج إلى الصلاة في ذلك الثوب وأنا أنظر إلى أثر الغسل فيه) [خ 229، م 289] والغسل لا يكون إلا من نجاسة.

وأجيب عنه بأنه قد جاء في أحاديث أخرى أنها كانت تفركه، وجاء التفصيل أنها كانت تفركه إذا كان يابسا، وتغسله إذا كان رطبا، وهذا يدل على أنه ليس بنجس، ثم إن الثوب قد يغسل من المخاط والبصاق والنخامة استقذارا لا تنجيسا.

2- عن معاوية بن أبي سفيان أنه سأل أخته أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: (هل كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي في الثوب الذي يجامعها فيه؟ فقالت: نعم إذا لم ير فيه أذى) [حم 26858، د 366، ن 294، جه 540، وصححه الألباني] فسمته أذى.

وأجيب بأن التسمية بالأذى لا تقتضي أن يكون نجسا، كما قال تعالى {ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا}، وفي أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعا: (ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه) [خ 5642، م 2573، واللفظ للبخاري]

3- عن عمار بن ياسر -رضي الله عنه- قال: (أتى عليَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا على بئر أدلو ماء في رَكْوَةٍ لي، فقال: يا عمار ما تصنع؟ قلت: يا رسول الله بأبي وأمي أغسل ثوبي من نخامة أصابته، فقال يا عمار: إنما يغسل الثوب من خمس من الغائط والبول والقيء والدم والمني، يا عمار ما نخامتك ودموع عينيك والماء في ركوتك إلا سواء) [قط 1/127]

وأجيب عنه بأنه لا أصل له، وفي إسناده ثابت بن حماد، قال الدارقطني: ضعيف جدا، وقال ابن عدي: له مناكير، وضعفه العقيلي وأبو نعيم، واتهمه بعضهم بالوضع، وقال اللالكائي: أجمعوا على ترك حديثه، وقال البيهقي: "هذا حديث باطل" 

4- أنه من جنس المذي فكان نجسا، لأن المذي يخرج عن مقدمات الشهوة، والمني أصل المذي عند استكمالها، وهو يجري في مجراه، ويخرج من مخرجه.

وأجيب عنه بمنع الحكم في الأصل على القول بطهارة المذي، وعلى التسليم بنجاسة المذي وهو الصحيح فإن القياس مع الفارق، فإن المني يخلق منه الولد الذي هو أصل الإنسان والمذي بخلافه، وإن اشتركا في انبعاثهما عن شهوة النكاح، فليس الموجب لطهارة المني أنه عن شهوة النكاح فقط.

5- أنه يجري في مجرى البول، فيتنجس بملاقاة البول، فيكون كاللبن في الظرف النجس.

وأجيب عنه بأجوبة منها: 

أولا: أننا لا نسلم أنه يجري في مجرى البول، فقد قيل: إن بينهما جلدة رقيقة.

ثانيا: أنه لو جرى في مجراه، فلا نسلم أن البول قبل ظهوره نجس.

ثالثا: أنه لو كان نجسا، فلا نسلم أن المماسة في باطن الحيوان موجبة للتنجيس، ويؤيد هذا قوله تعالى {من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين} ولو كانت المماسة في الباطن للفرث موجبة للنجاسة لنجس اللبن. 

القول الثاني: أنه نجس لكن يجزئ فرك يابسه، وهذا قول أبي حنيفة ورواية عن أحمد، واستدلوا بفعل عائشة -رضي الله عنها- الذي سيأتي.

القول الثالث: أنه طاهر، لكنه مستقذر كالمخاط والبصاق، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة في المشهور وهو اختيار شيخ الإسلام، وهو الراجح، واستدلوا بما يأتي: 

1- حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: (كنت أفركه من ثوب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) [م 288] وفي لفظ الدارقطني: (كنت أفركه إذا كان يابسا، وأغسله إذا كان رطبا) [قط 1/125، وقال الألباني: "وإسناده صحيح على شرط الشيخين"، إرواء الغليل 1/196] وهذا يدل على أنه ليس كالبول.

وأجيب بأن النعل إذا أصابته نجاسة إنه يدلك بالتراب، ويكون ذلك تطهيرا له، فالفرك والدلك لا يدل على الطهارة، نعم يصح الاستدلال لو أن عائشة -رضي الله عنها- تركت المني على ثوب النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم تغسله.

ورد بأن المني سائل، وليس جامدا كالعذرة، فدلك العذرة طهارة للنعل، لأنه لا يترك أثرا للنجاسة، أما فرك المني اليابس، فإنه لا يزيله تماما، لأن المني سائل يتشرب في الثوب، ففركه يدل على أنه ليس بنجس.

2- عن عبد الله بن شهاب الخولاني قال: (كنت نازلا على عائشة، فاحتلمت في ثوبي فغمستهما في الماء، فرأتني جارية لعائشة فأخبرَتْها، فبعثت إلي عائشة فقالت ما حملك على ما صنعت بثوبيك؟ قال قلت: رأيت ما يرى النائم في منامه، قالت: هل رأيت فيهما شيئا، قلت: لا، قالت: فلو رأيت شيئا غسلْتَهُ، لقد رأيتني وإني لأحكه من ثوب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يابسا بظفري) [م 290]

3- حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسْلُتُ -يمسح- المني من ثوبه بِعِرْق -عود- الإذخر، ثم يصلي فيه، ويحتُّه من ثوبه يابسا، ثم يصلي فيه) [حم 25528، وصححه شيخ الإسلام ابن تيمية، وحسنه الألباني والساعاتي] ومن المعلوم أن مسح الرطب من المني لا يزيل عينه، وأيضا فإن هذا السلت والحت من خصائص المستقذرات لا النجاسات، لأن عامة القائلين بنجاسة المني لا يجوزون مسح رطبه.

4- ما ورد عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أنه سئل عن المني يصيب الثوب؟ فقال: إنما هو بمنزلة المخاط والبصاق، وإنما يكفيك أن تمسحه بخرقة أو بإذخرة" [هق 2/418]، وروي مرفوعا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- [قط 1/124]، لكن قال شيخ الإسلام: "أما هذه الفتيا فهي ثابتة عن ابن عباس وقبله سعد بن أبي وقاص ... وأما رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فمنكر باطل لا أصل له"، ورجح البيهقي وقفه. 

5- أن الأصل في الأعيان الطهارة، ومعلوم أن المني يصيب أبدان الناس وثيابهم وفرشهم بغير اختيارهم أكثر مما يلغ الهر في آنيتهم فهو طواف الفضلات، بل قد يتمكن الإنسان من الاحتراز من البصاق والمخاط، ولا يقدر على الاحتراز من مني الاحتلام والجماع، وهذه المشقة الظاهرة توجب طهارته. [المغني 1/416، المبسوط 1/81، المجموع 2/572، مجموع الفتاوى 21/587-603]