الأربعاء 2 جمادي الآخر 1446
حكم بول وروث ما يؤكل لحمه
الخميس 12 مايو 2022 2:00 مساءاً
2808 مشاهدة
مشاركة

** اختلف العلماء في بول وروث ما يؤكل لحمه، وسيأتي حكم بول وروث ما لا يؤكل لحمه، أما بول وروث ما يؤكل لحمه فالخلاف فيه على قولين:

القول الأول: أنه نجس، وهو مذهب الشافعية ورواية عن الإمام أحمد، واستدلوا بما يأتي: 

1- حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-: (أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مر بقبرين فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول) [خ 218، م 292]، ووجه الدلالة أن لفظ البول عام فيشمل جميع الأبوال.

وأجيب عنه من وجوه: 

الأول: أن اللام في البول للتعريف، فتفيد ما كان معروفا عند المخاطبين، ولا يقال إنها للجنس، لأنه إذا وجد شيء معهود فإنه مقدم على اعتبار الجنس، كما قال تعالى {كما أرسلنا إلى فرعون رسولا} {فعصى فرعون الرسول} وهو الرسول المعهود.

الثاني: أنه جاء في بعض روايات الحديث (لا يستبرئ من بوله) [ن 2068] والاستبراء لا يكون إلا من بول نفسه.

الثالث: أنه جاء في بعض الروايات (لا يستتر من بوله) [خ 216، م 292] وهذا يفسر رواية (يستتر من البول) 

2- عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعا: (أكثر عذاب القبر من البول) [حم 8131، جه 348، وقد روي موقوفا ومرفوعا، ورجح أبو حاتم الرازي والدارقطني وقفه، لكنه مما لا يدرك بالرأي فله حكم الرفع، وصححه الألباني] وهذا عام.

وأجيب عنه بأن المراد بول نفسه، لأنا نعلم أن إصابة الإنسان ببول غيره قليل نادر وإنما الكثير إصابته بول نفسه.

3- قياس بول وروث ما يؤكل لحمه على غيره فيكون نجسا.

وأجيب بأنه قياس في مقابلة النص.

4- أن البول والروث مستخبث مستقذر تعافه النفوس على حد يوجب المباينة وهذا يناسب التحريم.

وأجيب عنه بأنه لو صح هذا الدليل، لوجب تنجيس كل مستخبث مستقذر، فيحكم بنجاسة المخاط والبصاق والنخامة والمني.

5- أن كون هذا الحيوان يؤكل لحمه لا يقتضي طهارة بوله، فالإنسان لحمه محرم كرامة له، ومع ذلك بوله نجس بالإجماع.

وأجيب عنه بأن الإنسان يفارق الحيوان في هذا الباب، فقياس البهائم على الإنسان غير صحيح، ولهذا لا ينجس الإنسان بالموت بخلاف الحيوان، ولا يحل أن يدبغ جلده بخلاف الحيوان.

القول الثاني: أنه طاهر، وهو المنقول عن الصحابة، ومذهب محمد بن الحسن من الحنفية ومذهب المالكية والحنابلة وابن حزم، وهو الراجح، واستدلوا بما يأتي: 

1- أن الأصل في الأعيان الطهارة.

2- عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-: (أن نفرا من عُكْلٍ ثمانية قدموا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فبايعوه على الإسلام فاستوخموا الأرض -لم توافقهم الإقامة لجوِّها- وسقمت أجسامهم، فشكوا ذلك إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ألا تخرجون مع راعينا في إبله فتصيبون من أبوالها وألبانها ! فقالوا بلى، فخرجوا فشربوا من أبوالها وألبانها فصَحُّوا، فقتلوا الراعي وطردوا الإبل فبلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فبعث في آثارهم فأدركوا فجيء بهم فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم -كحل أعينهم بمسامير محمية على النار- ثم نبذوا في الشمس حتى ماتوا) [خ 233، م 1671] والاستدلال بالحديث من وجهين: 

الأول: أنهم إذا شربوا منه فسوف يصيب أبدانهم وثيابهم وآنيتهم ولم يأمرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يأمرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بتطهيرها، ولا بتطهير أفواههم.

الثاني: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أباح لهم شربها ولو كانت محرمة نجسة لم يبح لهم شربها.

وأجيب عنه بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أباح لهم شربها لأجل ضرورة التداوي، والضرورات تبيح المحظورات، كما لو اضطر إلى شرب نجس لدفع هلكة عطش.

ورد بأن التداوي بالمحرمات النجسة محرم، وقياس ذلك على إباحته للجائع المضطر غير صحيح، لأن التداوي ليس بضرورة، وفرق بينه وبين الضرورة للأكل من وجوه:

أحدها: أن الدواء لا يتيقن حصول الشفاء به، وما أكثر من يتداوى ولا يشفى، بل وفي كثير من الأمراض لا يظن دفعه للمرض، إذ لو اطرد ذلك لم يمت أحد، بخلاف دفع الطعام للجوع فإنه مستيقن بحكم سنة الله في خلقه وعباده.

ثانيها: أن الأكل من المحرمات عند الضرورة واجب في ظاهر مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم، أما التداوي فليس بواجب عند جماهير الأئمة.

ثالثها: أن المضطر للطعام لا طريق له إلى إزالة ضرورته إلا الأكل من هذه الأعيان، وأما التداوي فلا يتعين تناول هذه المحرم طريقا لشفائه، فإن المرض الواحد يكون له أدوية كثيرة في الغالب وقد يحصل الشفاء بغير دواء.

وعلى التنزل بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أباحه لهم لضرورة التداوي، فإنه لم يأمرهم بغسل أثره من أفوافهم وآنتيهم.

3- عن أنس -رضي الله عنه- قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي قبل أن يبنى المسجد في مرابض الغنم) [خ 234، م 524] 

وحديث جابر بن سمرة -رضي الله عنه-: (أن رجلا سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أأتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا توضأ، قال: أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم فتوضأ من لحوم الإبل، قال: أصلي في مرابض الغنم؟ قال: نعم، قال: أصلي في مبارك الإبل؟ قال: لا) [م 360] 

وحديث البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: (سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الوضوء من لحوم الإبل فقال توضئوا منها، وسئل عن لحوم الغنم فقال لا توضئوا منها، وسئل عن الصلاة في مبارك الإبل فقال لا تصلوا في مبارك الإبل فإنها من الشياطين، وسئل عن الصلاة في مرابض الغنم فقال صلوا فيها فإنها بركة) [د 184، وصححه الألباني] 

فأجاز الصلاة في مرابض الغنم ولم يشترط حائلا، ولو كانت أرواثها نجسة كأرواث الآدميين لكانت الصلاة فيها إما محرمة كالحشوش والكنف أو مكروهة كراهية شديدة لأنها مظنة الأخباث والأنجاس، أما أن يستحب الصلاة فيها ويسميها بركة، ويكون شأنها شأن الحشوش أو قريبا من ذلك فهو جمع بين المتنافيين المتضادين.

4- عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: (بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ساجد وحوله ناس من قريش إذ جاء عقبة بن أبي معيط بسلا جزور فقذفه على ظهر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلم يرفع رأسه، فجاءت فاطمة فأخذته عن ظهره ودعت على من صنع ذلك) [خ 240، م 1794]، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولا يمكن حمله فيما أرى إلا على أحد وجوه ثلاثة: إما أن يقال هو منسوخ، وأعني بالنسخ أن هذا الحكم مرتفع وإن لم يكن قد ثبت لأنه بخطاب كان بمكة. وهذا ضعيف جدا لأن النسخ لا يصار إليه إلا بيقين، وأما بالظن فلا يثبت النسخ. وأيضا فإنا ما علمنا أن اجتناب النجاسة كان غير واجب ثم صار واجبا لا سيما من يحتج على اجتناب النجاسة بقوله تعالى {وثيابك فطهر} وسورة المدثر في أول المنزل فيكون فرض التطهير من النجاسات على قول هؤلاء من أول الفرائض ... 

وإما أن يقال: هذا دليل على جواز حمل النجاسة في الصلاة وعامة من يخالف في هذه المسألة لا يقول بهذا القول فيلزمهم ترك الحديث. ثم هذا قول ضعيف لخلافه الأحاديث الصحاح في دم الحيض وغيره من الأحاديث .... 

لم يبق إلا أن يقال: الفرث والسلى ليس بنجس وإنما هو طاهر، لأنه فرث ما يؤكل لحمه وهذا هو الواجب إن شاء الله تعالى لكثرة القائلين به وظهور الدلائل عليه ... 

فإن قيل ففيه السلى وقد يكون فيه دم. قلنا: يجوز أن يكون دما يسيرا بل الظاهر أنه يسير والدم اليسير معفو عن حمله في الصلاة.

فإن قيل فالسلى لحم من ذبيحة المشركين وذلك نجس وذلك باتفاق. قلنا: لا نسلم أنه قد كان حرم حينئذ ذبائح المشركين بل المظنون أو المقطوع به أنها لم تكن حرمت حينئذ فإن الصحابة الذين أسلموا لم ينقل أنهم كانوا ينجسون ذبائح قومهم. وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه أنه كان يجتنب إلا ما ذبح للأصنام." [مجموع الفتاوى 21/574]
5- عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال للجن: (لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما، وكل بعرة -أي روثة- علف لدوابكم، ثم قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم) [م 450، والحديث أعله الدارقطني والخطيب البغدادي بأنه من كلام الشعبي مرسلا، كما فصلته روايات أخرى. ينظر الأحاديث المنتقدة على الصحيحين 1/123] فجعلها زادا لدوابهم، ونهى عن الاستنجاء بها لئلا ننجسه عليهم، ولهذا استنبط الفقهاء من هذا أنه لا يجوز الاستنجاء بزاد الإنس. 

ومن المعلوم أنه لو كان البعر في نفسه نجسا لم يكن الاستنجاء به ينجسه ولم يكن فرق بين البعر المستنجى به والبعر الذي لا يستنجى به، والنبي -صلى الله عليه وسلم- جعل العلة في عدم الاستنجاء بالبعر أنها زاد دوابهم، ومن المعلوم أنه لو كان نجسا لكان التعليل بالنجاسة أولى.

وهذا يبين أن قوله في حديث ابن مسعود لما الدارقطني أتاه بحجرين وروثة فقال: (إنها ركس) إنما كان لكونها روثة آدمي ونحوه، وهي أيضا قضية عين، فيحتمل أن تكون روثة ما يؤكل لحمه وروثة ما لا يؤكل لحمه، ولفظ الركس لا يدل على النجاسة لأن الركس هو المركوس أي المردود، وإن كان قد جاء عند ابن ماجة بلفظ (هي رجس) [جه 314، وصححه الألباني]

6- أن هذه الأعيان يكثر ملابسة الناس لها في حياتهم، ولو كانت نجسة لبينها النبي -صلى الله عليه وسلم-

7- أن الله تعالى قال {وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود} فأمر بتطهير بيته الذي هو المسجد الحرام، ومعلوم قطعا أن الحمام لم يزل ملازما للمسجد الحرام لأمنه وعبادة بيت الله وأنه لا يزال ذرقه ينزل في المسجد وفي المطاف والمصلى. فلو كان نجسا لتنجس المسجد بذلك ولوجب تطهير المسجد منه: إما بإبعاد الحمام أو بتطهير المسجد أو بتسقيف المسجد، ولم تصح الصلاة في أفضل المساجد لنجاسة أرضه وهذا كله مما يعلم فساده يقينا، ولا بد من أحد قولين: إما طهارته مطلقا أو العفو عنه.

8- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهو إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم في كل عصر ومصر على دياس الحبوب من الحنطة وغيرها بالبقر ونحوها مع القطع ببولها وروثها على الحنطة، ولم ينكر ذلك منكر، ولم يغسل الحنطة لأجل هذا أحد ولا احترز عن شيء مما في البيادر لوصول البول إليه. والعلم بهذا كله علم اضطراري ما أعلم عليه سؤالا ولا أعلم لمن يخالف هذا شبهة. وهذا العمل إلى زماننا متصل في جميع البلاد لكن لم نحتج بإجماع الأعصار التي ظهر فيها هذا الخلاف لئلا يقول المخالف أنا أخالف في هذا، وإنما احتججنا بالإجماع قبل ظهور الخلاف. 

وهذا الإجماع من جنس الإجماع على كونهم كانوا يأكلون الحنطة ويلبسون الثياب ويسكنون البناء، فإنا نتيقن أن الأرض كانت تزرع، ونتيقن أنهم كانوا يأكلون ذلك الحب ويقرون على أكله، ونتيقن أن الحب لا يداس إلا بالدواب، ونتيقن أن لا بد أن تبول على البيدر الذي يبقى أياما ويطول دياسها له وهذه كلها مقدمات يقينية" [مجموع الفتاوى 21/583]، وقد ذكر ابن قدامة مثل هذا الدليل [المغني 1/414]، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية إن القول بنجاسته قول محدث لا سلف له من الصحابة. [مجموع الفتاوى 21/613]

القول الثالث: أن بول الحيوان نجس، وأما بول الطير فإذا يذرق -يتغوط- في الهواء كالعصافير والحمام فهو طاهر، وإن كان لا يذرق كالدجاج والبط فهو نجس، وهو مذهب الحنفية، واستدلوا على نجاسة بول الحيوان بأدلة أصحاب القول الأول، وعلى طهارة بول الطير إذا ذرق في الهواء، بوجود الحمام في المسجد.

** سؤر ما يؤكل لحمه طاهر، وقد أجمع العلماء على ذلك، ويدل لهذا الإجماع حديث عمرو بن خارجة -رضي الله عنه- قال: (خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمنى وهو على راحلته، ولعابها يسيل بين كتفي) [حم 17211، ت 2121، ن 3642، جه 2714، وصححه الألباني]