** أحكام المستحاضة كأحكام الطاهرة منها تماما إلا فيما يأتي:
1- وجوب الوضوء عليها لكل صلاة: وقد سبق بحثها في مسألة صاحب الحدث الدائم كمن به سلس بول والمستحاضة.
**وهل يجب عليها الغسل؟ اختلف العلماء على عدة أقوال:
القول الأول: أنها تغتسل لكل صلاة، وهذا القول مروي عن ابن عمر وابن الزبير وعطاء وغيرهم، واستدلوا بما يأتي:
1- عن أبي سلمة قال أخبرتني زينب بنت أبي سلمة: (أن امرأة كانت تهراق الدم -وكانت تحت عبد الرحمن بن عوف- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمرها أن تغتسل عند كل صلاة وتصلي) [د 293، وصححه الألباني]، وفي رواية: (أن أم حبيبة بنت جحش استحيضت في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأمرها بالغسل لكل صلاة) [د 292]
2- عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: (إن أم حبيبة بنت جحش التي كانت تحت عبد الرحمن بن عوف، وأنها استحيضت لا تطهر، فذكر شأنها لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: ليست بالحيضة، ولكنها ركضة من الرحم، لتنظر قدر قرئها التي كانت تحيض لها، فلتترك الصلاة، ثم تنظر ما بعد ذلك فلتغتسل عند كل صلاة) [ن 356، وصححه الألباني]
وأجيب أن الحديثين في قصة أم حبيبة بنت جحش، فإنها هي التي كانت تحت عبد الرحمن بن عوف، والحديث في الصحيحين بدون ذكر أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- لها بالاغتسال، بل الثابت فيهما أنها كانت تغتسل لكل صلاة من نفسها، وعلى هذا فيحتمل أن ذكر الأمر بالاغتسال من قول النبي -صلى الله عليه وسلم- شاذا كما رجحه البيهقي. [العلل عمدة القاري 3/311، التمهيد 16/96]
ويحتمل أنه على سبيل السنية لا الوجوب، فعن عائشة -رضي الله عنها-: (أن أم حبيبة استحيضت سبع سنين، فسألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك فأمرها أن تغتسل، فقال هذا عرق، فكانت تغتسل لكل صلاة) [خ 327] ولفظ مسلم: (فقال إنما ذلك عرق فاغتسلي ثم صلي، فكانت تغتسل عند كل صلاة) [م 334]
قال الحافظ ابن حجر: "وهذا الأمر بالاغتسال مطلق فلا يدل على التكرار، فلعلها فهمت طلب ذلك منها بقرينة فلهذا كانت تغتسل لكل صلاة، وقال الشافعي: إنما أمرها صلى الله عليه وسلم أن تغتسل وتصلي، وإنما كانت تغتسل لكل صلاة تطوعا .." [الفتح 1/427]
3- عن عائشة -رضي الله عنها-: (أن سهلة بنت سهيل استحيضت فأتت النبي -صلى الله عليه وسلم- فأمرها أن تغتسل عند كل صلاة، فلما جهدها ذلك، أمرها أن تجمع بين الظهر والعصر بغسل والمغرب والعشاء بغسل، وتغتسل للصبح) [د 295]
وأجيب بما قاله الحافظ: "وأما ما وقع عند أبي داود من رواية سليمان بن كثير وابن إسحاق عن الزهري في هذا الحديث (فأمرها بالغسل لكل صلاة) فقد طعن الحفاظ في هذه الزيادة، لأن الأثبات من أصحاب الزهري لم يذكروها، وقد صرح الليث كما تقدم عن مسلم بأن الزهري لم يذكرها" [الفتح 1/427]
4- عن حمنة بنت جحش أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لها: (فإن قويت على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر ثم تغتسلين حين تطهرين، وتصلين الظهر والعصر جميعا، ثم تؤخرين المغرب وتعجلين العشاء ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين فافعلي، وتغتسلين مع الصبح وتصلين، قال: وهو أعجب الأمرين إلي) [سبق تخريجه في الأحاديث التي جاءت في المستحاضة]
وأجيب بأن تخيير النبي -صلى الله عليه وسلم- لها بين أن تصلي الصلوات في وقتها ولا تغتسل، وبين أن تجمع بينها وتغتسل دليل على أن الغسل ليس على سبيل الوجوب، ولهذا قال لها (فإن قويت)، وقال (وهو أعجب الأمرين إلي).
القول الثاني: أنها تغتسل في كل يوم مرة وهذا مروي عن عائشة، واستدلوا بحديث جاءت عائشة -رضي الله عنها- أن فاطمة بنت أبي حبيش قالت لها: (إني أخاف أن أقع في النار، إني أدع الصلاة السنة والسنتين لا أصلي، فقالت: انتظري حتى يجيء النبي -صلى الله عليه وسلم-، فجاء، فقالت عائشة: هذه فاطمة تقول كذا وكذا، فقال لها: قولي لها فلتدع الصلاة في كل شهر أيام قرئها، ثم لتغتسل في كل يوم غسلا واحدا، ثم الطهور عند كل صلاة، ولتنظف ولتحتش، فإنما هو داء عرض، أو ركضة من الشيطان، أو عرق انقطع) [كم 628]
والحديث مداره على عثمان بن سعد الكاتب، وهو ضعيف.
القول الثالث: أنها تغتسل للظهر والعصر غسلا واحدا، تصلي به الظهر في آخر وقتها، والعصر في أول وقتها، وتغتسل للمغرب والعشاء كذلك، فتؤخر المغرب وتعجل العشاء، وتغتسل للفجر غسلا واحدا، وهو قول علي، وابن عباس، وإبراهيم النخعي.
القول الرابع: وهو مذهب الجمهور وهو الراجح، أنه لا يجب عليها الغسل إلا غسل المحيض للبراءة الأصلية، ولأن المستحاضات في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- كثيرات، ولم يأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- واحدة منهن بالغسل لكل صلاة أو كل يوم، ولما في ذلك من المشقة العظيمة التي لا تأتي الشريعة بمثلها، أما ما رواه البخاري ومسلم عن عائشة -رضي الله عنها- أن أم حبيبة شكت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- الدم فقال: (امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك، ثم اغتسلي) فكانت تغتسل لكل صلاة [خ 327، م 334] فهذا اجتهاد منها -رضي الله عنها- وإلا فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- لها بالاغتسال المقصود منه الاغتسال من المحيض لا الاغتسال لكل صلاة. [موسوعة الطهارة للدبيان 8/163]
2- أنها إذا أرادت الوضوء فإنها تغسل أثر الدم وتعصب على الفرج خرقة على قطن ليستمسك الدم، ويدل لذلك حديث حمنة بنت جحش -رضي الله عنها- حين قال لها النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَنْعَتُ لك الْكُرْسُفَ -القطن- فإنه يُذهب الدم، قالت: هو أكثر من ذلك، قال: فَتَلَجَّمِي -أي ضعي موضع الدم عصابة-، قالت: هو أكثر من ذلك، قال: فاتخذي ثوبا -يعني تحت اللجام-) [سبق تخريجه في الأحاديث التي جاءت في المستحاضة]، ولا يضرها ما خرج بعد ذلك لقوله تعالى {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}
** اختلف العلماء في جماع المستحاضة، على أقوال:
القول الأول: وهو المشهور عند الحنابلة أنه يحرم وطؤها، إلا مع خوف العنت من الزوج أو الزوجة، قياسا على جماع الحائض.
وهذا القياس غير صحيح؛ لظهور الفرق بينهما، وقد فرق النبي -صلى الله عليه وسلم- بينهما في قوله (إنما ذلك عرق، وليس بالحيضة)
القول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد أنه مكروه.
القول الثالث: وهو مذهب الجمهور أنه جائز، وهو الصحيح، واستدلوا بما يأتي:
1- قوله تعالى {فاعتزلوا النساء في المحيض} ووجه الدلالة أن الآية أمرت باعتزال النساء في المحيض، فهو دليل على أنه لا يجب اعتزالهن فيما سواه.
2- أن نساء كثيرات يبلغن العشر استحضن في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يمنع الله ولا رسوله من جماعهن.
3- أن الصلاة تجوز منها فالجماع أهون.
4- أن الاستحاضة دم عرق فلا يمنع الوطء كدم الجروح ونحوه. [موسوعة الطهارة للدبيان 8/197]