** استحب بعض العلماء إذا رأى الهلال أن يقول ما ورد في حديث طلحة بن عبيد الله: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الهلال قال: اللهم أهله علينا باليمن والإيمان والسلامة والإسلام ربي وربك الله) [ت 3451، حم 1400، وصححه الألباني، وقال الشيخ الطريفي: "منكر"]
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا رأى الهلال قال: الله أكبر، اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام، والتوفيق لما يحب ربنا ويرضى ربنا وربك الله) [دمي 1687، حب، طب، واللفظ للدرامي، وقال الشيخ حسين أسد: إسناده ضعيف]
** لا تخلوا رؤية الهلال من حالتين:
الحال الأولى: رؤية الهلال في اليوم التاسع والعشرين، فإن كان قبل الغروب فلا عبرة بذلك، فلا يحل به فطر إن كان في آخر شهر رمضان، ولا يلزم به صوم إن كان ذلك قبل رمضان، لئلا يلزم من ذلك أن يكون الشهر ثمانيا وعشرين.
وأما رؤيته بعد الغروب فلا خلاف في اعتبارها، ويدل لذلك ما رواه شقيق بن سلمة قال: "أتانا كتاب عمر ونحن بخانقين: إن الأهلة بعضها أكبر من بعض، فإذا رأيتم الهلال نهارا فلا تفطروا حتى يشهد رجلان مسلمان أنهما رأياه بالأمس عشية" [قط، هق، وصححه الحافظ في التلخيص الحبير 2/403].
الحال الثانية: رؤية الهلال يوم الثلاثين، ففيه خلاف بين العلماء:
القول الأول: وهو مذهب الجمهور أنه لا عبرة برؤيته في نهار الثلاثين، فسواء رئي الهلال قبل الزوال أم بعده فهو لليلة المقبلة، واستدلوا بما يأتي:
1- قوله تعالى {هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب} وقوله تعالى {والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم} فدلت الآيتان على أنه لا عبرة برؤيته نهارا، وإنما العبرة برؤيته بعد الغروب عندما يصير كالعرجون -أي الشمراخ المعوج- حينما يظهر نوره قوسا صغيرا بعد غروب الشمس أول كل شهر قمري.
2- أثر شقيق بن سلمة السابق.
القول الثاني: وهو مذهب ابن حزم ورواية عن أحمد أنه تعتبر رؤيته إذا كان قبل الزوال، وعليه يكون لليلة السابقة، فيصوموا إن كان ذلك يوم الثلاثين من شعبان، ويفطروا إن كان ذلك يوم الثلاثين من رمضان، أما إن رئي بعد الزوال فهو لليلة المقبلة، واستدلوا بما يأتي:
1- قوله صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) وهم قد رأوه في النهار، فوجب عليهم أن يعتبروا به.
2- عن إبراهيم النخعي قال: "كتب عمر رضي الله عنه إلى عتبة بن فرقد: إذا رأيتم الهلال نهارا قبل أن تزول الشمس لتمام ثلاثين فأفطروا، وإذا رأيتموه بعدما تزول الشمس فلا تفطروا حتى تصوموا" [هق 4/213، وقال البيهقي: "هكذا رواه إبراهيم النخعي منقطعا، وحديث أبي وائل أصح من ذلك" ا.هـ أي أثر شقيق بن سلمة السابق، والأثر قال عنه النووي في المجموع: "وأما ما احتجوا به من رواية إبراهيم النخعي فلا حجة فيه فإنه منقطع، لأن إبراهيم لم يدرك عمر ولا قارب زمانه"]
القول الثالث: وهو رواية عن الإمام أحمد أنه تعتبر رؤيته إن كان يوم الثلاثين من شعبان، وذلك احتياطا.
والأقرب هو القول الأول، ومن مجموع الأقوال يعلم أنه إن رئي الهلال بعد الزوال فلا نزاع في أنه يكون لليلة المقبلة، والخلاف فيما لو رئي قبل الزوال.
** لو رأى الهلال وحده فرُدّ قوله، ففيه تفصيل:
أولا: إن رأى هلال رمضان وحده ورد قوله، فاختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: يلزمه الصوم، وهذا هو المذهب، وهو قول جمهور العلماء، واستدلوا بما يأتي:
1- قوله تعالى {فمن شهد منكم الشهر فليصمه}
2- قوله -صلى الله عليه وسلم-: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) وهذين الدليلين عامين فيمن قبلت شهادته أو ردت.
3- أنه تيقن الرؤية فلزمه الصوم.
القول الثاني: لا يلزمه الصوم، وهو رواية عن الإمام أحمد، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، واستدلوا بما يأتي:
1- أن الهلال ما هل واشتهر لا ما رئي.
2- حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعا: (الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون) [د 2324، ت 697، جه 1660، وصححه الألباني]
ثانيا: إن رأى هلال شوال وحده ورد قوله، فاختلف العلماء على قولين:
القول الأول: يلزمه الصوم، ولا يجوز له الفطر، وهذا مذهب الجمهور، والفرق بين رؤية هلال رمضان وهلال شوال، أن هلال شوال لا يثبت شرعا إلا بشاهدين، وهنا رآه وحده فلا يكون داخلا شرعا فيلزمه الصوم وليس له الإفطار.
القول الثاني: أنه يجب عليه الفطر سرا، وهو مذهب الشافعية، لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعا: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غبي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين) [خ 1909، م 1081]
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية: "إذا رأى هلال الصوم وحده، أو هلال الفطر وحده، فهل عليه أن يصوم برؤية نفسه؟ أو يفطر برؤية نفسه؟ أم لا يصوم ولا يفطر إلا مع الناس؟ على ثلاثة أقوال هي ثلاث روايات عن أحمد:
أحدها: أن عليه أن يصوم، وأن يفطر سرا، وهو مذهب الشافعي.
والثاني: يصوم ولا يفطر إلا مع الناس، وهو المشهور من مذهب أحمد ومالك وأبي حنيفة.
والثالث: يصوم مع الناس ويفطر مع الناس، وهذا أظهر الأقوال، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (صومكم يوم تصومون وفطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون) رواه الترمذي وقال حسن غريب ... ولأنه لو رأى هلال النحر لما اشتهر، والهلال اسم لما استهل به، فإن الله جعل الهلال مواقيت للناس والحج، وهذا إنما يكون إذا استهل به الناس ... ولهذا قال أحمد في روايته: يصوم مع الإمام وجماعة المسلمين في الصحو والغيم. قال أحمد: يد الله على الجماعة ...
وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا وصوموا من الوضح إلى الوضح) ونحو ذلك خطاب للجماعة، لكن من كان في مكان ليس فيه غيره، إذا رآه صامه، فإنه ليس هناك غيره، وعلى هذا فلو أفطر ثم تبين أنه رئي في مكان آخر أو ثبت نصف النهار، لم يجب عليه القضاء، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، فإنه إنما صار شهرا في حقهم من حين ظهر واشتهر، ومن حينئذ وجب الإمساك كأهل عاشوراء، الذين أمروا بالصوم في أثناء اليوم ولم يؤمروا بالقضاء على الصحيح، وحديث القضاء ضعيف، والله أعلم." [الفتاوى 25/114-118]
والراجح كما قال شيخ الإسلام أنه يصوم ويفطر مع الناس، إلا أن يكون لوحده فيعمل بما رآه، يوضحه أنه لو رأى هلال ذي الحجة لوحده فيلزمه الوقوف مع الناس فكذلك في رمضان.
** إذا قامت البينة في أثناء النهار، ففيه خلاف بين العلماء:
القول الأول: مذهب الجمهور أنه يجب عليهم الإمساك والقضاء، أما وجوب الإمساك فلا شك فيه ودليله حديث سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه- قال: (أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلا من أسلم أن أذن في الناس أن من كان أكل فليصم بقية يومه، ومن لم يكن أكل فليصم فإن اليوم يوم عاشوراء) [خ 2007، م 1135] وكان صوم عاشوراء واجبا قبل فرض رمضان.
وأما القضاء فإنه يلزم لأن من شرط صيام الفرض أن ينوي قبل الفجر.
وأجيب عن هذا بأن النية تتبع العلم، وأن الله لا يكلف أحدا ما لم يعلم.
القول الثاني: وهو مذهب الظاهرية، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية أنه لا قضاء عليهم، فيجب الإمساك فقط، وبناء على قولهم فإنه لو لم تقم البينة إلا بعد غروب الشمس فإنه لا يلزمهم القضاء، واستدلوا بما يأتي:
1- حديث سلمة بن الأكوع السابق، فلم يأمرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بالقضاء.
2- أن من أكل وشرب قبل ثبوته بالبينة إنما يأكل ويشرب بإذن الله، فقد أحله الله له، فهو لم ينتهك له حرمة، بل هو جاهل فيدخل في عموم قوله تعالى {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} وقوله {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم}
3- أن الأحكام لا تلزم إلا بعد بلوغها، فهو أفطر لأن الحكم الظاهر له أن هذا اليوم ليس من رمضان، فإذا بان أنه من رمضان لزمه إمساك ما بان له، ولم يلزمه قضاء ما لم يبلغه، وإذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يأمر أهل قباء بإعادة الصلاة التي صلوا بعضها إلى القبلة المنسوخة لعدم بلوغ الأمر لهم، فكذلك من لم يبلغه وجوب فرض الصوم، أو لم يتمكن من العلم بسبب وجوبه [زاد المعاد 2/74].
4- أنه كان مستعدا ناويا موطنا نفسه على صيام جميع شهر رمضان، فإذا بان له بعد ذلك خطؤه في فطره لم يكن هذا خطأ مؤاخذا به، بل كان هذا المشروع في حقه، أنه أفطر بالحكم الشرعي، وأمسك بالحكم الشرعي، فهو لم يخالف حكم الشرع بوجه.
5- أن الناسي إذا أكل وشرب وهو صائم فإن صومه صحيح، وكذلك المخطيء على القول الصحيح، وهؤلاء أدنى أحوالهم أن يكونوا مخطئين إن لم نقل مصيبين، فكيف يتم الصوم للناسي والمخطيء دون المفطرين بالأمر، الممسكين بالأمر، والناسي والمخطيء مفطرون بالعذر، صائمون بالأمر، فأي الطائفتين أعذر وأولى بعدم القضاء؟
بل حالة المفطر قبل أن يتبين له أنه من رمضان كحالة الذي يأكل ويشرب قبل أن يتبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، فإذا تبين له بعد أنه أكل وشرب بعد طلوع الفجر فالصواب أن حكمه حكم الناسي لا حرج عليه.
6- أن المتأولين من الصحابة -رضي الله عنهم- للخيط الأبيض من الخيط الأسود ظنوا أنه الخيط المعروف فكانوا يأكلون ويشربون حتى يتضح لهم الخيطان، ولم يأمرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بإعادة ما فعلوه، والذي كان مفطرا قبل أن يتبين له أنه من رمضان ثم أمسك بعد أن تبين له أعلى حالة من المتأول. [انظر زاد المعاد 2/73-75، المحلى 4/290، وانظر المختارات الجلية للسعدي ص72، الفتح 4/142]