الإثنين 12 ربيع الأول 1446
المفسد السابع: إخراج الدم بالحجامة
الخميس 26 يناير 2023 2:00 مساءاً
462 مشاهدة
مشاركة

المفسد السابع: إخراج الدم بالحجامة.

** اختلف العلماء في الفطر بالحجامة على قولين:

القول الأول: وهو مذهب الحنابلة وهو اختيار شيخ الإسلام وابن القيم أن الحجامة من مفسدات الصيام، واستدلوا بما يأتي: [انظر زاد المعاد 4/62]

1- ما رواه أبو داود عن ثوبان -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (أفطر الحاجم والمحجوم) [د 2367، جه 1680، وصححه الألباني] 

2- عن شداد بن أوس -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتى على رجل بالبقيع وهو يحتجم، وهو آخذ بيدي لثمان عشرة خلت من رمضان، فقال: (أفطر الحاجم والمحجوم) [د 23، جه 1681، وصححه الألباني] 

وأجيب عن ذلك بأن حديثي ثوبان وشداد معللان بالاضطراب.

ورد هذا الجواب بعدم التسليم، فقد تظاهرت أقوال الأئمة بتصحيح الحديث مثل الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وعلي بن المديني والدارمي والبخاري وابن المنذر وأبو زرعة وابن حبان وابن خزيمة والحاكم وابن حزم وغيرهم.

وأجيب أيضا بأن حديثي ثوبان وشداد معناهما أفطر الحاجم والمحجوم أي سيفطران.

ورد هذا بأنه باطل لما فيه من الإيهام ولأن الصحابة فهموا خلافه، ولشدة مخالفته للوضع العربي.

وأجيب أيضا بأن معناهما: أفطر الحاجم والمحجوم أي بطل ثواب صومهما.

ورد هذا بأنه كيف يبطل أجر الحاجم والمحجوم وأنتم لا تحرمون الحجامة للصائم ولا ترون فساد الصوم بها، ولو كان المراد بطلان الأجر لكان هذا دليلا على فساد الصوم لا على صحته.

وأجيب أيضا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفطر الحاجم والمحجوم) لأنهما كانا يغتابان.

ورد هذا بأن هذه الرواية قد رواها الطحاوي والدارمي وفيها يزيد بن ربيعة متروك، ورواها البيهقي في شعب الإيمان وفيها المثنى بن بكر، قال أبو حاتم: مجهول، وقال الدارقطني: متروك، وحكم علي بن المديني على الحديث بأنه باطل، ثم فيه من التلبيس على الأمة، ما ينزه عنه النبي صلى الله عليه وسلم، وشريعة الله تعالى. [فتح الباري 4/178]

القول الثاني: وهو مذهب جمهور العلماء، أن الحجامة لا تفسد الصوم مطلقا، واستدلوا بما يأتي:

1- عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (احتجم وهو محرم واحتجم وهو صائم) [خ 1938].

وأجيب بأن الحديث ورد على روايات أربع، وهي: 

أ- احتجم وهو محرم، وهذا في الصحيحين. 

ب- احتجم وهو محرم واحتجم وهو صائم، وهذا قد انفرد به البخاري.

ج- احتجم وهو محرم صائم [حم 1852، ت 775، د 2273، جه 3081].

د- احتجم وهو صائم [حم 2711، ت 776، د 2372]

فالرواية الأولى لا دليل فيها، والرواية الرابعة مختصرة من الثانية على أن بعض العلماء قد أعلها أيضا، أما الرواية الثانية، فليس فيها دلالة على عدم الفطر بالحجامة، لأن اللفظ محتمل لعدة معان، وبيان ذلك فيما يأتي: 

أ- يحتمل أن يكون قد احتجم وهو صائم في السفر لا في الحضر، والمسافر يجوز له الفطر.

ب- يحتمل أن يكون قد احتجم وهو مريض غير صحيح والمريض يجوز له الفطر بنص القرآن.

ج- يحتمل أن يكون احتجم أولا قبل قوله: (أفطر الحاجم والمحجوم)

د- يحتمل أن ذلك الصيام كان صيام نفل لا فرض، وإذا ورد الاحتمال بطل الاستدلال.

هـ- على فرض رد كل الاحتمالات السابقة فالجمع بين الأحاديث أن نقول: القاعدة أن الحكم للنص الناقل عن الأصل، فيكون حديث (أفطر الحاجم والمحجوم) مقدما على حديث ابن عباس، والقاعدة أن القول مقدم على الفعل، وهذا فعل من النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم هو حادثة عين لا يعارض بها ما هو أقوى منه.

أما الرواية الثالثة فقد تمسك بها الجمهور، وقالوا: إن أحاديث الفطر بالحجامة كانت سنة ثمان للهجرة كما في حديث شداد، وهذا الحديث رواه ابن عباس، وهو لم يكن مع النبي -صلى الله عليه وسلم- محرما إلا في حجة الوداع سنة عشر من الهجرة، فيكون قوله (احتجم وهو محرم صائم) ناسخا لأحاديث الفطر الحجامة لتأخره.

وأجيب عن هذا الإيراد بما يأتي:

أولا: أن رواية (احتجم وهو محرم صائم) أعلها الإمام أحمد وعلي بن المديني وغيرهما، قالوا: والصواب أنه: احتجم وهو محرم، وليس فيه (صائم).

ثانيا: على فرض صحة هذه اللفظة فليس فيها ما يؤيد استدلال الجمهور، لأنه قال: (محرم صائم) والنبي -صلى الله عليه وسلم- كان محرما قبل سنة ثمان، فقد أحرم بعمرة الحديبية سنة ست، وأحرم من العام القادم بعمرة القضاء، وكلاهما قبل سنة ثمان، ثم أحرم في حجة الوداع وعمرة الجعرانة، وكلاهما بعد سنة ثمان، ولا سبيل إلى تعيين أن إحرامه ذلك كان بعد سنة ثمان، أما الاستدلال بأن ابن عباس لم يكن مع النبي -صلى الله عليه وسلم- محرما إلا في حجة الوداع فهو استدلال بعيد، لأن ابن عباس لم يقل: شهدت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أو رأيته، وإنما روى ذلك رواية مطلقة، وأكثر رواياته مرسلة عن الصحابة، حتى قال بعض الحفاظ إن سماعات ابن عباس من النبي -صلى الله عليه وسلم- لا تعدوا عشرين قصة. 

ثالثا: على فرض صحة الحديث، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن محرما إلا مسافرا، والمسافر يجوز له الفطر بأي مفطر من المفطرات.

[انظر تلخيص الحبير 2/191، حاشية ابن القيم على سنن أبي داود 6/503، فتح الباري 4/178، صحيح ابن خزيمة 3/227]

2- عن ثابت البناني قال: "سئل أنس بن مالك -رضي الله عنه- أكنتم تكرهون الحجامة للصائم؟ قال: لا، إلا من أجل الضعف" [خ 1940].

والجواب عن هذا أن يقال: سؤال السائل لأنس أكنتم تكرهون الحجامة؟ قال: لا، إلا من أجل الضعف، يدل على أن أنسا لم تكن عنده رواية عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه أفطر بها، ولا أنه رخص فيها، بل الذي عنده كراهتها من أجل الضعف، ولو علم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رخص فيها كما هو رأي الجمهور لم يكره شيئا رخص فيه النبي -صلى الله عليه وسلم-.

3- عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: (رخص النبي -صلى الله عليه وسلم- في القبلة للصائم، ورخص في الحجامة) [ن الكبرى 2/236، برقم 3237، قال الحافظ في الفتح: "ورجاله ثقات، ولكن اختلف في رفعه ووقفه"] قال ابن حزم وغيره: والرخصة لا تكون إلا بعد النهي.

والجواب عن هذا أن يقال: 

أولا: حديث أبي سعيد في الرخصة في الحجامة مختلف فيه، وذكر الحجامة فيه ليس من كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- بل من كلام أبي سعيد كما قاله ابن خزيمة، ولكن بعض الرواة أدرجه، ويؤيده أنه ثبت في صحيح ابن خزيمة أن أبا سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال في الحجامة: "إنما كانوا يكرهون أو يخافون الضعف"، وفي رواية قال: "إنما كرهت الحجامة للصائم مخافة الضعف"، فهذا يدل على أن أبا سعيد لم يحك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- الرخصة في الحجامة، لأنه لو كان من كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- لما كرهه، بل أباحه مطلقا، وقد رجح البخاري وأبو حاتم وأبو زرعة والترمذي والطبراني والبزار وقف الحديث، وأنه من كلام أبي سعيد -رضي الله عنه- [انظر شرح العمدة كتاب الصيام 1/427، صحيح ابن خزيمة 3/230].

ثانيا: ليس في الأثر بيان لتاريخ حتى يقال بالنسخ، وأما قول ابن حزم وغيره إن الرخصة لا تكون إلا بعد النهي فباطل بنفس الحديث، فإن فيه: رخص النبي -صلى الله عليه وسلم- في القبلة للصائم، ولم يتقدم فيه نهي عنها، ولا قال أحد إن هذا الترخيص فيها ناسخ لمنع متقدم، وفي الحديث: (إن الماء من الماء، كانت رخصة في أول الإسلام) [حم 20601، د 215، ت 110، جه 609، من حديث أبي بن كعب، وصححه الألباني، وأصله في مسلم من حديث أبي سعيد الخدري دون قوله: رخصة ...] فسمى الحكم المنسوخ رخصة مع أنه لم يتقدم حظر، بل المنع منه متأخر. [انظر كلام ابن خزيمة في صحيحه 3/226 - 236]

4- أن حديث ابن عباس أرجح من حديثي ثوبان وشداد لأنه أصح سندا.

وأجيب عن هذا بأن الترجيح إنما يكون إذا لم يمكن الجمع بين الأحاديث ولم يمكن القول بالنسخ كما هو معروف في موضعه في الأصول، ولو علمنا بالترجيح لرجحنا حديثا ثوبان وشداد أيضا، لأن حديثا ثوبان وشداد صحيحان، وكذلك حديث ابن عباس، فيقدم حديثا ثوبان وشداد لأنهما ناقلان عن الأصل والحكم للنص الناقل عن الأصل، ولأن حديثاهما قول، والقول مقدم على الفعل، ولأن حديث ابن عباس ليس فيه دلالة إذ الاحتمالات الواردة عليه وقد سبقت تسقط الاستدلال به.

5- أن أحاديث ثوبان وشداد وغيرهما منسوخة بحديث ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- احتجم وهو صائم، ومنسوخة بحديث أبي سعيد الخدري سالف الذكر، ومنسوخة بحديث أنس -رضي الله عنه- قال: "أول ما كرهت الحجامة للصائم أن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم فمر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: (أفطر هذان) ثم رخص النبي عليه السلام بعد في الحجامة للصائم وكان أنس يحتجم وهو صائم".

ويجاب عن هذا بأن دعوى النسخ لا تثبت إلا بشرطين:

أحدهما: التعارض بين النصين على وجه لا يمكن الجمع بنيهما 

والثاني: العلم بتأخر الناسخ عن المنسوخ، وكلا الشرطين منتف هنا.

فالجمع ممكن والتاريخ مجهول، والجمع بين الأحاديث هو أن الحجامة مفطرة، ولو قدر تعارض الأحاديث لكان الأخذ بأحاديث الفطر متعين لأنها ناقلة عن الأصل، والقاعدة أن الحكم للنص الناقل عن الأصل 

أما حديث أنس -رضي الله عنه- قال: "أول ما كرهت الحجامة" الحديث، فقد رواه الدارقطني وقال: "كلهم ثقات ولا أعلم له علة" لكن قال الحافظ في الفتح: "ورواته كلهم من رجال البخاري، إلا أن في المتن ما ينكر، لأن فيه أن ذلك كان في الفتح، وجعفر كان قتل قبل ذلك" ا.هـ، 

وقال صاحب التنقيح: "هذا حديث منكر لا يصح الاحتجاج به لأنه شاذ الإسناد والمتن وكيف يكون هذا الحديث صحيحا سالما من الشذوذ والعلة ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة ولا هو في المصنفات المشهورة ولا في السنن المأثورة ولا في المسانيد المعروفة وهم يحتاجون إليه أشد احتياج ولا نعرف أحدا رواه في الدنيا إلا الدارقطني، رواه عن البغوي عن عثمان بن أبي شيبة ثنا خالد بن مخلد به، وكل من رواه بعد الدارقطني إنما رواه من طريقه ولو كان معروفا لرواة الناس في كتبهم وخصوصا الأمهات ... ثم إن خالد بن مخلد القطواني وعبد الله بن المثنى وإن كانا من رجال الصحيح فقد تكلم فيهما غير واحد من الأئمة، قال أحمد بن حنبل في خالد له أحاديث مناكير وقال بن سعد منكر الحديث مفرط التشيع وقال السعدي كان معلنا بسوء مذهبه ومشاه بن عدي فقال هو عندي إن شاء الله لا بأس به، وأما بن المثنى فقال أبو عبيد الآجري سألت أبا داود عن عبد الله بن المثنى الأنصاري فقال لا أخرج حديثه وقال النسائي ليس بالقوي وذكره بن حبان في الثقات وقال ربما أخطأ وقال الساجي فيه ضعف لم يكن صاحب حديث وقال الموصلي روى مناكير وذكره العقيلي في الضعفاء وقال لا يتابع على أكثر حديثه ... وأصحاب الصحيح إذا رووا لمن تكلم فيه فإنهم يدعون من حديثه ما تفرد به وينتقون ما وافق فيه الثقات وقامت شواهده عندهم ... ثم لو سلم صحة هذا الحديث لم يكن فيه حجة لأن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه قتل في غزوة مؤتة وهي قبل الفتح وحديث أفطر الحاجم والمحجوم كان عام الفتح" ا.هـ [نصب الراية 2/480] 

6- عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الحجامة والمواصلة ولم يحرمهما إبقاء على أصحابه) [حم 18343، د 2374، قال الحافظ في الفتح: "إسناده صحيح"، وصححه الألباني] 

وأجيب عن هذا بما يأتي:

1- أن الحديث محتمل لأن يكون المعنى: نهى عن الحجامة في الصيام، ولم يحرمها مطلقا، وإنما نهى عنها في الصيام إبقاء على أصحابه، فيكون قوله: إبقاء على أصحابه متعلقا بقوله: نهى عن الحجامة، وعليه فليس فيه دلالة على عدم الفطر بالحجامة، بل فيه دلالة على أنها من المفسدات للصيام.

2- أن قوله: "ولم يحرمهما" هو اعتقاد من الصحابي، وقد أخبر هو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الحجامة، والنهي يقتضي التحريم، أما فهمه فقد خالفه غيره من الصحابة، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومن روي عنه من الصحابة الرخصة في ذلك، فأكثرهم قد روي عنه بخلافه، وهذا يدل على أنهم لم يكونوا سمعوا النهي في ذلك ثم سمعوه" [شرح العمدة 1/438] 

3- على افتراض أن فيه دليلا على أن الحجامة لا تفسد الصيام، فيكون متعارضا مع ما سبق من الأدلة، والترجيح بأن الحكم للنص الناقل عن الأصل.

** الذين قالوا إن الحجامة من مفسدات الصوم اختلفوا، فمنهم من قال إن العلة تعبدية فلا يقاس على الحجامة شيء ويفطر الحاجم والمحجوم مطلقا، ومنهم من قال إن العلة معلومة، أما بالنسبة للمحجوم فلأن خروج الدم منه يضعف بدنه فيحتاج إلى التقوي بالأكل والشرب فكانت الحجامة من مفسدات الصوم، وأما بالنسبة للحاجم فلأن الحاجم عادة يمص قارورة الحجامة وإذا مصها فإنه سوف يصعد الدم إلى فمه، وربما من شدة الشفط ينزل الدم إلى بطنه من حيث لا يشعر، وهذا يكون شربا للدم فيكون بذلك مفطرا، وهذا هو الغالب ولا عبرة بالنادر، وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية أن العلة معلومة.

وعلى هذا فلو استعمل الحاجم آلة منفصلة لا تحتاج إلى مص، فعلى رأي شيخ الإسلام لا يفطر، وعلى القول بأن العلة تعبدية فإنه يفطر، والقول الأقرب هو قول شيخ الإسلام.

وعلى ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية فإنه يمكن القياس على الحجامة، وفي معنى إخراج الدم بالحجامة إخراجه بالفصد ونحوها مما يؤثر على البدن كتأثير الحجامة، وعلى هذا فلا يجوز للصائم صوما واجبا أن يتبرع بدمه إلا أن يوجد مضطر له لا تندفع ضرورته إلا به، ولا ضرر على الصائم بسحب الدم منه، فيجوز للضرورة ويفطر ذلك اليوم ويقضي، وأما خروج الدم بالرعاف أو السعال أو الباسور أو قلع السن أو شق الجرح أو غرز الإبرة فلا يفطر لأنه ليس بحجامة ولا بمعناها إلا لا يؤثر في البدن كتأثير الحجامة.

قال ابن القيم نقلا عن شيخ الإسلام ابن تيمية: "أما الفطر بالحجامة فإنما اعتقد من قال: إنه على خلاف القياس ذلك بناء على أن القياس الفطر بما دخل لا بما خرج، وليس كما ظنوه، بل الفطر بها محض القياس.

وهذا إنما يتبين بذكر قاعدة، وهي: أن الشارع الحكيم شرع الصوم على أكمل الوجوه وأقومها بالعدل، وأمر فيه بغاية الاعتدال، حتى نهى عن الوصال، وأمر بتعجيل الفطر وتأخير السحور، وجعل أعدل الصيام وأفضله صيام داود، فكان من تمام الاعتدال في الصوم أن لا يدخل الإنسان ما به قوامه كالطعام والشراب ولا يخرج ما به قوامه كالقيء والاستمناء.

وفرق بين ما يمكن الاحتراز منه من ذلك وبين ما لا يمكن، فلم يفطر بالاحتلام ولا بالقيء الذارع كما لا يفطر بغبار الطحين وما يسبق من الماء إلى الجوف عند الوضوء والغسل، وجعل الحيض منافيا للصوم دون الجنابة، لطول زمانه وكثرة خروج الدم وعدم التمكن من التطهير قبل وقته بخلاف الجنابة، وفرق بين دم الحجامة ودم الجرح فجعل الحجامة من جنس القيء والاستمناء والحيض، وخروج الدم من الجرح والرعاف من جنس الاستحاضة والاحتلام وذرع القيء، فتناسبت الشريعة وتشابهت تأصيلا وتفصيلا، وظهر أنها على وفق القياس الصحيح والميزان العادل، ولله الحمد." [أعلام الموقعين 2/256]