الأحد 4 ربيع الأول 1446
قاعدة في العبادات التي تشرع على أنواع مختلفة
الثلاثاء 31 يناير 2023 2:00 مساءاً
589 مشاهدة
مشاركة

العبادات التي فعلها النبي -صلى الله عليه وسلم- على أنواع يشرع فعلها على جميع تلك الأنواع.

ويعبر عنها بعض العلماء بقولهم: "العبادات الواردة على وجوه متنوعة يسن فعلها على جميع تلك الوجوه"، ولهذه القاعدة الشريفة مكانة كبيرة في الفقه الإسلامي، لأن فهمها والعمل بها يقضى على كثير من النزاعات والاختلافات، ومثال ذلك أنواع التشهدات والاستفتاح والقراءات التي أنزل عليها القرآن.

ومن أدلة هذه القاعدة حديث أبي بن كعب - رضي الله عنه – قال: (ما حاك في صدري منذ أسلمت إلا أني قرأت آية، وقرأها آخر غير قراءتي، فقلت أقرأنيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقال الآخر أقرأنيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقلت يا نبي الله أقرأتني آية كذا وكذا؟ قال نعم، وقال الآخر: ألم تقرئني آية كذا وكذا؟ قال نعم، إن جبريل وميكائيل عليهما السلام أتياني فقعد جبريل عن يميني، وميكائيل عن يساري، فقال جبريل عليه السلام: اقرأ على حرف، قال ميكائيل استزده، حتى بلغ سبعة أحرف، فكل حرف شاف كاف) [حم 20589، ن 941، وصححه الألباني].

وقد ذكر شيخ الإسلام لهذه القاعدة قيدين مهمين:

الأول: أنه ليس للمكلف أن يجمع في العبادة الواحدة بين النوعين في الوقت الواحد، فلا يأتي بتشهدين معا، ولا بقراءتين معا، وإن فعل ذلك كان منهيا عنه، فإن الجمع بين هذه الأنواع يكون محرما تارة، ومكروها تارة أخرى، قلت ويدل لذلك حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسكت بين التكبير وبين القراءة إسكاتة، فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله إسكاتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال: أقول اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد) [خ 744، م 598] فذكر له صيغة واحدة من صيغ الاستفتاح.

الثاني: أن من تمام السنة في هذه العبادات المتنوعة ألا يداوم الإنسان على نوع واحد من تلك الأنواع -ولو كان أفضل من غيره-، بل يفعل هذا تارة وهذا تارة، وهذا في مكان وهذا في مكان، فإن هذا هو الأفضل والأحسن للوجوه التالية:

الوجه الأول: أن هذا هو اتباع السنة والشريعة، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا كان قد فعل هذا تارة وهذا تارة، ولم يداوم على أحدهما كان موافقته في ذلك هو الاتباع.

الوجه الثاني: أن ذلك يوجب اجتماع قلوب الأمة، وائتلافها، وزوال كثرة التفرق والاختلاف والأهواء، وهذه مصلحة عظيمة ودفع مفسدة عظيمة، وقد ندب الكتاب والسنة إلى جلب هذه ودرء هذه، قال تعالى {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا}

الوجه الثالث: أن ذلك يخرج الجائز المسنون عن أن يشبَّه بالواجب، فإن المداومة على المستحب أو الجائز مشبهة بالواجب، ولهذا أكثر هؤلاء المداومين على بعض الأنواع الجائزة أو المستحبة، لو انتقل عنه لنفر عنه قلبه وقلب غيره أكثر مما ينفر عن ترك كثير من الواجبات، لأجل العادة التي جعلت الجائز كالواجب.

الوجه الرابع: أن كل نوع من أنواع العبادة المتنوعة لا بد أن له خاصة ليست لغيره، وفي العمل بكل واحد منهما تحصيل مصلحة كل واحد من تلك الأنواع.

الوجه الخامس: أن في ذلك وضعا لكثير من الآصار والأغلال التي وضعها الشيطان على الأمة بلا كتاب من الله ولا أثارة من علم، فإن مداومة الإنسان على أمر جائز مرجحا له على غيره، ترجيحا يحب من يوافقه عليه، ولا يحب من لا يوافقه عليه، بل ربما أبغضه بحيث ينكر عليه تركه له، يوجب أن ذلك يصير إصرا عليه لا يمكنه تركه، وغلا في عنقه يمنعه أن يفعل بعض ما أمر به وقد يوقعه في بعض ما نهي عنه.

الوجه السادس: إن في المداومة على نوع دون غيره هجرانا لبعض المشروع، وذلك سبب لنسيانه والإعراض عنه، حتى يعتقد أنه ليس من الدين، بحيث يصير في نفوس كثير من العامة أنه ليس من الدين، كما قد رأينا -والكلام لشيخ الإسلام- من تعود ألا يسمع إقامة إلا موترة أو مشفوعة، فإذا سمع الإقامة الأخرى نفر عنها وأنكرها، ويصير كأنه سمع أذانا ليس أذان المسلمين، وكذلك من اعتاد القنوت قبل الركوع أو بعده، وهجران بعض المشروع سبب لوقوع العداوة والبغضاء بين الأمة، قال تعالى {ومن الذين قالوا إن نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حزا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة}

الوجه السابع: أن الشارع إذا سوى بين عملين كان تفضيل أحدهما على الآخر من الظلم العظيم، وإذا فضل بينهما كانت التسوية بينهما من الظلم أيضا، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- شرع تلك الأنواع إما بقوله وإما بفعله، وفي كثير منها لم يفضل بعضهم على بعض، فكانت التسوية بينها بفعل هذا تارة، وهذا تارة من العدل، والتفضيل بينها بالمداومة على نوع مع اعتقاد فضله من الظلم. [مجموع الفتاوى 24/248 بتصرف]

الوجه الثامن: أن في ذلك حضورا للقلب، لأن الإنسان إذا تعود على ذكر واحد، صار يأتي به وهو لا يشعر، أما إذا نوع بين الأذكار فإن قلبه يكون حاضرا.