الأحد 4 ربيع الأول 1446
ما كان منهيا عنه للذريعة فإنه يباح فعله لأجل الحاجة
الثلاثاء 31 يناير 2023 2:00 مساءاً
521 مشاهدة
مشاركة

ما كان منهيا عنه للذريعة فإنه يباح فعله لأجل الحاجة.

يمكن الاستدلال لهذه القاعدة بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما انكسر قدحه اتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة، فالفضة محرمة للذريعة وهي استعمال الذهب للرجال، فأبيحت للحاجة.

ومن فروع هذه القاعدة تحريم الحرير، فهو محرم لذريعة، ولهذا أبيح للنساء وللحاجة والمصلحة الراجحة.

ومن فروعها النظر للأجنبية فقد حرم لأنه يفضي إلى الفتنة، لذا أبيح منه ما تدعوا الحاجة إليه كالنظر إلى المخطوبة، ونظر الطبيب وغيرها.

ومن فروعها ربا الفضل فقد حرم سدا لذريعة ربا النسيئة ولهذا أبيح منه ما تدعو إليه المصلحة الراجحة كبيع العرايا.

ومن فروعها التنفل بالصلاة في أوقات النهي، فقد حرم سدا لذريعة المشابهة الصورية لعباد الشمس، وأبيحت للمصلحة الراجحة. [انظر زاد المعاد 4/78]

ولهذا قال ابن القيم:"لَمَّا كان غض البصر أصلا لحفظ الفرج بدأ بذكره – يعني في قوله تعالى {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم} -، ولما كان تحريمه تحريم الوسائل فيباح للمصلحة الراجحة، ويحرم إذا خيف منها الفساد، ولم يعارضه مصلحة أرجح من تلك المفسدة، لم يأمر سبحانه بغضه مطلقا بل أمر بالغضّ منه، وأما حفظ الفرج فواجب بكل حال، لا يباح إلا بحقه، فلذلك عمّ الأمر بحفظه" [روضة المحبين 1/92، غذاء الألباب 1/101]

ومن فروعها سفر المرأة بدون محرم، فإنه محرم سدا للذريعة، ولهذا قال شيخ الإسلام:"كما نهى عن الخلوة بالأجنبية والسفر معها والنظر إليها لما يفضي من الفساد، ونهاها أن تسافر إلاَّ مع زوجٍ أو ذي محرم ... ثمَّ إنّ ما نُهي عنه لسدِّ الذريعة يُباح للمصلحة الراجحة، كما يباح النظر إلى المخطوبة، والسفر بها إذا خيف ضياعها، كسفرها من دار الحرب، مثل سفر أم كلثوم، وكسفر عائشة لما تخلفت مع صفوان بن المعطَّل، فإنه لم ينه عنه، إلاَّ لأنه يفضي إلى مفسدة فإن كان مقتضياً للمصلحة الراجحة لم يكن مفضيًا إلى المفسدة، وهذا موجود فى التطوع المطلق فانه قد يفضى إلى المفسدة وليس الناس محتاجين اليه فى أوقات النهى لسعة الأوقات التى تباح فيها الصلاة، بل فى النهى عنه بعض الأوقات مصالح أخر من إجمام النفوس بعض الأوقات من ثقل العبادة ... وأما ما كان له سبب، فمنها ما اذا نهى عنه فاتت المصلحة وتعطل على الناس من العبادة والطاعة وتحصيل الأجر والثواب والمصلحة العظيمة فى دينهم ما لا يمكن استدراكه كالمعادة مع امام الحى وكتحية المسجد وسجود التلاوة وصلاة الكسوف ونحو ذلك" [مجموع الفتاوى 23/186]

وقال شيخ الإسلام: "وهذا أصل لأحمد وغيره: في أن ما كان من باب سد الذريعة إنما ينهى عنه إذا لم يحتج إليه وأما مع الحاجة للمصلحة التي لا تحصل إلا به وقد ينهى عنه، ولهذا يفرق في العقود بين الحيل وسد الذرائع، فالمحتال يقصد المحرم فهذا ينهى عنه. وأما الذريعة فصاحبها لا يقصد المحرم لكن إذا لم يحتج إليها نهي عنها وأما مع الحاجة فلا" [مجموع الفتاوى 23/214]

ومن فروعها النهي عن التشبه بالكفار فهو سدا للذريعة، لأن المشابهة في الهدى الظاهر ذريعة الى الموافقة في القصد والعمل.

ومثله ما أفتى به الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ -رحمه الله? بعد أن بيَّن أنَّ الاختلاط محرَّم لأنهيؤدِّي إلى الفتنة قال:"ولا يدخل في ذلك ما تدعو إليه الضرورة وتشتد الحاجة إليه، ويكون في مواضع العبادة، كما يقع في الحرم المكي والمدني" [فتاوى ورسائل الشيخ محمّد بن إبراهيم آل الشيخ 10/44]

ومن فروعها ما ورد من أن عرفجة بن أسعد قطع أنفه يوم الكلاب، فاتخذ أنفا من ورق فأنتن عليه فأمره النبي -صلى الله عليه وسلم- فاتخذ أنفا من ذهب، فإن تحريم الذهب ليس تحريما مطلقا، فإنه قد أبيح لأحد المكلفين وهم الإناث، وأبيحت التجارة فيه، فتحريمه على الذكور من باب تحريم الوسائل لا من باب تحريم المقاصد، وما كان هذا شأنه فإنه يباح عند مطلق الحاجة.

وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: "تحريم لبسِ الحرير من باب تحريم الوسائل، وذلك لأن الحرير نفسه من اللباس الطيِّب ولِباس الزِّينة، ولكن لما كان مدعاة إلى تنعّم الرّجل كتنعّم المرأة؛ بحيث يكون سببا للفتنة؛ صار ذلك حراما، فتحريمه إذا من باب تحريم الوسائل، وقد ذكر أهل العلم أن ما حرِّم تحريم الوسائل أباحته الحاجة، وضربوا لذلك مثلا بالعرايا، وهي بيع الرّطب بالتّمر، وبيع الرّطب بالتّمر حرام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن بيع التمر بالرطب، قال: أينقص الرّطب إذا يبس؟، قالوا: نعم، فنهى عن ذلك، لأنه رِبا؛ إذ إن الجهل بالتساوي كالعلم بالتّفاضل، لكن العرايا أبيحت للحاجة، والحاجة هي أن الإنسان الفقير الذي ليس عنده نقود إذا كان عنده تمر، واحتاج إلى التّفكه بالرّطب، كما يتفكّه النّاس أباح له الشّارع أن يشتري بالتّمر رطبا على رؤوس النخل، بشرط ألا تزيد على خمسة أوسق، وأن يكون بالخرْصِ، أي: أننا نخْرِص الرّطب لو كان تمرا بحيث يساوي التّمر الذي أبدلناه به.

فهذا شيء من الرِّبا، ولكن أبيح للحاجة. لماذا؟ لأن تحريم رِبا الفضل من باب تحريم الوسائل، بخلاف رِبا النسيئة، فإن تحريم رِبا النسيئة من باب تحريم المقاصد، ولهذا جاء في حديث أسامة بن زيد (لا رِبا إلا في النّسيئة) أو:(إنما الرِّبا في النّسيئة)، قال أهل العلم: المراد بهذا الرِّبا الكامل المقصود، أما رِبا الفضل فإنه وسيلة" [الشرح الممتع 2/211]

ومن فروعها أنه يحرم عند بعض الحنابلة صنع الطعام للناس لأجل اجتماعهم، لحديث جرير بن عبد الله البجلي قال: "كنا نعد الاجتماع عند أهل الميت وصنعة الطعام بعد دفنه من النياحة" [حم 6866، جه 1612، وصححه الألباني]، والنياحة محرمة، وقال في المغني: "وإن دعت الحاجة إلى ذلك جاز، فإنه ربما جاءهم من يحضر ميتهم من القرى والأماكن البعيدة ويبيت عندهم فلا يمكنهم أن لا يضيفوه" ا.هـ. فإن قيل: لم أجزتموه عند الحاجة، وقد قلتم بالتحريم، والمحرم لا يباح إلا عند الضرورة؟

فالجواب: أن تحريم ذلك من باب تحريم الوسائل، وما كان تحريمه من باب تحريم الوسائل، فإنه يباح عند المصلحة الراجحة.

وقد فرع أهل العلم على مسألة الضرورة وحاجة الناس التي تجري مجراها مسائل كثيرة متناثرة في كتب فقه السلف وقواعدهم [انظر تفريعات ابن القيم في إعلام الموقعين 2/41، 3/20، 4/94، زاد المعاد 5/704، بدائع الفوائد 4/28، وأحكام أهل الذمة 1/254]

فمن الضرورة ما ترفع حكم الفعل وصفته، فالفاعل لا يؤاخذ ولا يأثم لأن الفعل أصبح مباحا بل واجبا ما دامت حالة الضرورة قائمة كأكل الميتة للمضطر بقدر دفع الهلاك عند المجاعة، ومن الضرورة ما ترفع حكم الفعل لا صفته، أي تبقى حرمته، والترخيص إنما يكون في رفع الإثم كنظر الطبيب إلى ما لا يجوز انكشافه شرعا من مريض وجريح، فإنه ترخيص في رفع الإثم لا الحرمة.