الأحد 4 ربيع الأول 1446
ليس هناك حكم شرعي يختص بالشخص بعينه
الثلاثاء 31 يناير 2023 2:00 مساءاً
563 مشاهدة
مشاركة

ليس هناك حكم شرعي يختص بالشخص بعينه وإنما يختص بالشخص بوصفه.

معنى القاعدة أن الأصل أن ما ثبت في حق الواحد من الأمة، ثبت في حق الجميع، وأن الأصل ألا يختص أحد بحكم، وإنما تعلق الأحكام بالأوصاف والعلل التي جاء من أجلها الحكم. [ينظر: شرح مختصر الروضة 2/570]

ولا نزاع بين جماهير العلماء في هذا الأصل، ويدل لذلك حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- (أن رجلا أصاب من امرأة قبلة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأنزل الله عز وجل {أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات}، فقال الرجل يا رسول الله ألي هذا؟ قال: لجميع أمتي كلهم) [خ 536، م 2763]

وأيضا فإن أكثر الأحكام نزلت لأسباب خاصة، وفي أناس معيين، وكان إجماع الصحابة -رضي الله عنهم- ومن بعدهم على تعميم هذه الأحكام، دون تخصيصها بأسبابها، ولهذا قال العلماء في أنس -رضي الله عنه-: (رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف في لبس الحرير لحكة كانت بهما) [م 2076]، إنه ليس خاصا بالزبير وعبد الرحمن -رضي الله عنهما-، وإنما هو عام لكل من انطبقت عليه العلة.

فإذا قال قائل: أليس الله خص نبيه بخصائص كما قال تعالى {وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين}؟

فالجواب: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خص بذلك؛ لأنه رسول الله، فهو خص بوصفه لا بعينه، ولولا أنه رسول لكان رجلا من بني هاشم.

ويشكل على هذه القاعدة بعض التطبيقات، وهي: 

الأول: حديث البراء بن عازب - رضي الله عنهما - قال: (خطبنا النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الأضحى بعد الصلاة، فقال: من صلى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب النسك، ومن نسك قبل الصلاة فإنه قبل الصلاة، ولا نسك له، فقال أبو بردة بن نِــــيَار -خال البراء- يا رسول الله: فإني نسكت شاتي قبل الصلاة، وعرفت أن اليوم يوم أكل وشرب، وأحببت أن تكون شاتي أول ما يذبح في بيتي، فذبحت شاتي وتغديت قبل أن آتي الصلاة، قال: شاتك شاة لحم، قال يا رسول الله: فإن عندنا عَنَاقا –وهي أنثى المعز- لنا جذعة، هي أحب إلي من شاتين، أفتجزي عني؟ قال: نعم، ولن تجزي عن أحد بعدك) [خ 955، م 1961] والشاهد أن التضحية بالمعز لا تجوز ما لم تبلغ سنة، والجذع –وهو ما له ستة أشهر- لا يجزيء إلا في الضأن –الخروف- لا المعز، لكن استثنى النبي -صلى الله عليه وسلم- أبو بردة وقــبِــل منه الجذع من المعز، وقال: (لن تجزيء عن أحد بعدك)

وقد اختلفت أجوبة العلماء على هذا الحديث، فمنهم من قال إن هذا الحكم خاص بأبي بردة بن نيار، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (ولن تجزيء عن أحد بعدك).

واختار شيخ الإسلام ابن تيمية أنه ليس في الشريعة حكم يختص بالشخص بعينه، وإنما من كان حاله مثل حال أبي بردة طبق عليه نفس الحكم، فإذا أتانا رجل بعد الصلاة وكان قد ذبح قبلها جهلا منه، وقال إن عنده عناق فنقول له اذبح وتجزي عنك، ويكون معنى قوله (ولن تجزيء عن أحد بعدك) يعني بعد حالك. [شرح عمدة الفقه لابن تيمية (الحج) 2/505]

وقد جاءت بعض الأحاديث التي تؤيد –إن صحت- أن هذا الحكم ليس خاصا بأبي بردة، فمنها حديث عقبة بن عامر -رضي الله عنه-: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه غنما يقسمها على صحابته، فبقي عتود، فذكره للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال ضح به أنت) [خ 2300، م 1965]، وفي رواية (فصارت لعقبة جذعة) [خ 5547]

وقد زاد البيهقي (ولا أرخصه لأحد فيها بعد) [هق 9/452]، وقال البيهقي عقبها: "فهذه الزيادة إذا كانت محفوظة كانت رخصة له كما رخص لأبي بردة بن نيار"

وقد اختلف العلماء في حديث عقبة، فذهب بعضهم كالبيهقي إلى أن هذه رخصة لعقبة، كما كانت لأبي بردة، ورده الحافظ ابن حجر بأن في كل منهما صيغة عموم، فأيهما تقدم على الآخر اقتضى انتفاء الوقوع للثاني.

وذهب الحافظ ابن حجر إلى احتمال أن ذلك صدر لكل منهما في وقت واحد، أو تكون خصوصية الأول نسخت بثبوت الخصوصية للثاني. [فتح الباري 10/15]

وذهب ابن القيم إلى تقديم حديث أبي بردة، وقال إن حديث عقبة بن عامر إنما وقع فيه الإشكال من جهة أنه جاء في بعض ألفاظه أنها (جذعة)، وجاء في بعض ألفاظة أنها (عتود)، فظن بعضهم أن العتود هو الجذع من ولد المعز، والصحيح أن العتود من ولد المعز ما قوي ورعي وأتى عليه حول، كما قاله الجوهري وغيره من أئمة اللغة، فيكون هو الثني من المعز، فتجوز الضحية به.

ومن روى (فصارت لعقبة جذعة) لم يقل فيه جذع من المعز، وبقي الإشكال في رواية البيهقي (ولا أرخصة لأحد فيها بعد)، وقد رجح ابن القيم أن هذه الزيادة غير محفوظة، ولم يذكرها أحد من أصحاب الصحيحين. [حاشية ابن القيم على سنن أبي داود 7/352]

الثاني: حديث عائشة -رضي الله عنه- أن سالما مولى أبي حذيفة كان مع أبي حذيفة وأهله في بيتهم فأتت تعني ابنة سهيل النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت إن سالما قد بلغ ما يبلغ الرجال وعقل ما عقلوا وإنه يدخل علينا وإني أظن أن في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئا فقال لها النبي -صلى الله عليه وسلم- أرضعيه تحرمي عليه ويذهب الذي في نفس أبي حذيفة فرجعت فقالت إني قد أرضعته فذهب الذي في نفس أبي حذيفة [خ 5088، م 1453]

واختلفت أجوبة العلماء على هذا الحديث، فمنهم من سلم بأن رضاع الكبير مؤثر كرضاع الصغير، وهذا مذهب الظاهرية، واستدلوا بعموم قوله تعالى {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم}، وبحديث سالم مولى أبي حذيفة، ويرون أن الرضعة الواحدة محرمة.

أما الجمهور فأجابوا عنه بأحد أجوبة ثلاثة:

1- حديث سالم مولى أبي حذيفة منسوخ.

2- حديث سالم خاص بسالم مولى أبي حذيفة.

3- ليس بمنسوخ ولا خاص، وأنه إذا وجدت حالة كحال سالم فإن رضاع الكبير محرم، لكن ما هي الحال؟ هل هي مطلق الحاجة، أو الحاجة التي تنبني على التبني؟ 

إذا قلنا بالثاني صار العمل بهذا الحديث مستحيلا، لأنه لا يمكن التبني، والقول الثاني هو المقبول لأنه هو الذي ينطبق تماما على القصة، وأما مطلق الحاجة ففيه نظر، ووجه النظر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:(إياكم والدخول على النساء، فقالوا يا رسول الله أرأيت الحمو، قال الحمو الموت) ولو كانت الحاجة مبيحة للإرضاع المحرم لكانت هذه حاجة وهي دخول الحمو، ولقال النبي -صلى الله عليه وسلم- (الحمو ترضعه فتحرم عليه) فلما لم يعدل إلى هذا الحل مع دعاء الحاجة إليه علم أنه لا يؤثر، وعلى هذا فليس حديث سالم خاص به خصوصية شخصية، وإنما استحالة أن يكون هناك مثل حاله.

الثالث: عن أم عطية -رضي الله عنها- قالت: (بايَعْنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقرأ علينا أن لا يشركن بالله شيئا ونهانا عن النياحة، فقبضت امرأة يدها، فقالت: أسعدتني فلانة، أريد أن أجزيها، فما قال لها النبي -صلى الله عليه وسلم- شيئا، فانطلقتْ ورجعتْ فبايعها) [خ 4892] والمرأة هي أم عطية نفسها، وقد أبهمت نفسها في الرواية.

وفي رواية قالت: (لما نزلت هذه الآية {يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ... ولا يعصينك في معروف} قالت: كان منه النياحة، قالت أم عطية: فقلت يا رسول الله إلا آل فلان، فإنهم كانوا أسعدوني في الجاهلية فلا بد لي من أن أسعدهم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إلا آل فلان) [م 937] ومعنى الإسعاد المشاركة في البكاء والنياحة على الميت.

وقد اختلف أجوبة العلماء على هذا الحديث، فقال النووي إنه محمول على الترخيص لأم عطية في آل فلان خاصة، ولا تحل النياحة لغيرها، ولا لها في غير آل فلان، والشارع له أن يخص من العموم ما شاء، ورد ذلك الحافظ ابن حجر، بأنه وردت أحاديث أخرى فيها استثناء غيرها، فقد أخرج بن مردويه من حديث بن عباس قال (لما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على النساء، فبايعهن أن لا يشركن بالله شيئا الآية، قالت خولة بنت حكيم: يا رسول الله كان أبي وأخي ماتا في الجاهلية، وإن فلانة أسعدتني وقد مات أخوها) الحديث.

وعن أم سلمة الأنصارية وهي أسماء بنت يزيد قالت: (قالت امرأة من النسوة ما هذا المعروف الذي لا ينبغي لنا أن نعصيك فيه؟ قال: لا تنحن، قلت يا رسول الله، إن بني فلان قد أسعدوني على عمي، ولا بد لي من قضائهن، فأبى علي، فأتيته مرارا، فأذن لي في قضائهن، فلم أنح بعد قضائهن ولا على غيره حتى الساعة) [ت 3307، وحسنه الألباني]

وقال بعض العلماء: إن ذلك كان قبل تحريم النياحة، ورد بأن سياق حديث أم عطية يدل على أنه بعد النهي، ولولا أن أم عطية فهمت التحريم لما طلب الاستثناء، وقبضت يدها.

وقيل: إن قولها (إلا آل فلان) ليس فيه نص على أنها تساعدهم بالنياحة، فيمكن أنها تساعدهم باللقاء والبكاء الذي لا نياحة معه، ورد بأن سياق الحديث يخالفه، ولو كان بلا نياحة لما احتاجت إلى طلب استثنائه، ولما أخرت البيعة حتى تفعله.

وقيل: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمهلها حتى تسير إلى صاحبتها؛ لعلمه بأن ذلك لا يبقى في نفسها، وإنما ترجع سريعا عنه، كما روي أن بعضهم شرط ألا يخر إلا قائما، فقيل في أحد تأويليه: إنه لا يركع، فأمهله حتى آمن، فرضي بالركوع.

وقال بعض العلماء أن النياحة كانت مباحة ثم كرهت كراهة تنزيه ثم تحريم. [ينظر: أحكام القرآن لابن العربي 4/237]

[فتح الباري 8/638، 10/17، ينظر: شرح عمدة الفقه لابن تيمية (الحج) 2/505، الفتاوى الكبرى 5/385، مجموع الفتاوى 17/127، المستدرك على مجموع الفتاوى 3/200، إعلام الموقعين 2/90]