حكم الحاكم يرفع الخلاف
المراد بهذه القاعدة أن حكم القاضي بين المتخاصمين ملزم لهم ورافع للخلاف، فليس للمفتي أن يرد حكم القاضي ويوجه المستفتي بخلافه.
وليس معنى القاعدة أن اختيار السلطان لقول من الأقوال ملزم ورافع للخلاف ويلزم الأمة رأيه.
قال القرافي: "حكم الحاكم في مسائل الاجتهاد يرفع الخلاف ويرجع المخالف عن مذهبه لمذهب الحاكم، وتتغير فتياه بعد الحكم عما كانت عليه على القول الصحيح من مذاهب العلماء، فمن لا يرى وقف المشاع إذا حكم حاكم بصحة وقفه، ثم رفعت الواقعة لمن كان يفتي ببطلانه نفذه وأمضاه، ولا يحل له بعد ذلك أن يفتي ببطلانه، وكذلك إذا قال: إن تزوجتك فأنت طالق فتزوجها وحكم حاكم بصحة هذا النكاح فالذي كان يرى لزوم الطلاق له ينفذ هذا النكاح، ولا يحل له بعد ذلك أن يفتي بالطلاق هذا هو مذهب الجمهور وهو مذهب مالك" [الفروق 2/103]
وقال شيخ الإسلام: "ليس المراد بالشرع اللازم لجميع الخلق حكم الحاكم ولو كان الحاكم أفضل أهل زمانه، بل حكم الحاكم العالم العادل يلزم قوما معينين تحاكموا إليه في قضية معينة، لا يلزم جميع الخلق ولا يجب على عالم من علماء المسلمين أن يقلد حاكما لا في قليل ولا في كثير إذا كان قد عرف ما أمر الله به ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، بل لا يجب على آحاد العامة تقليد الحاكم في شيء بل له أن يستفتى من يجوز له استفتاؤه وإن لم يكن حاكما" [مجموع الفتاوى 35/372]
وقال أيضا: "الأمة إذا تنازعت في معنى آية أو حديث أو حكم خبري أو طلبي لم يكن صحة أحد القولين وفساد الآخر ثابتا بمجرد حكم حاكم، فإنه إنما ينفذ حكمه في الأمور المعينة دون العامة، ولو جاز هذا لجاز أن يحكم حاكم بأن قوله تعالى {يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء}هو الحيض والأطهار ويكون هذا حكما يلزم جميع الناس ... والذى على السلطان في مسائل النزاع بين الأمة أحد أمرين إما أن يحملهم كلهم على ما جاء به الكتاب والسنة واتفق عليه سلف الأمة لقوله تعالى {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول}، وإذا تنازعوا فهم كلامهم إن كان ممن يمكنه فهم الحق، فإذا تبين له ما جاء به الكتاب والسنة دعا الناس إليه أو أن يقر الناس على ما هم عليه كما يقرهم على مذاهبهم العملية ...
أما إلزام السلطان في مسائل النزاع بالتزام قول بلا حجة من الكتاب والسنة فهذا لا يجوز باتفاق المسلمين ولا يفيد حكم حاكم بصحة قول دون قول في مثل ذلك إلا إذا كان معه حجة يجب الرجوع إليها فيكون كلامه قبل الولاية وبعدها سواء" [مجموع الفتاوى 3/238-240]
وهذا الذي كان عليه الصحابة رضي الله عنهم، فعن سعيد بن المسيب قال: "اجتمع علي وعثمان بعسفان فكان عثمان -رضي الله عنه- ينهى عن المتعة أو العمرة، فقال علي: ما تريد إلى أمر فعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تنهى عنه، فقال عثمان: دعنا منك، فقال: إني لا أستطيع أن أدعك، فلما أن رأى علي ذلك أهل بهما جميعا" [خ 1569، م 1223]، وفي رواية: "قال عثمان: أتفعلها وأنا أنهى عنها، فقال علي: لم أكن لأدع سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأحد من الناس" [ن 2723]، فلم يترك علي رضي الله عنه التمتع لرأي عثمان رضي الله عنه ولم يكن رأي عثمان ملزما لعلي.