قاعدة الاحتياط في الشريعة
أولا: العلاقة بين الاحتياط واليقين
قد يتعارض الاحتياط مع اليقين، وقد يكون الاحتياط بالأخذ باليقين، فمن نسبي ركوعا أو سجودا أوركنا من أركان الصلاة، ولم يعرف محله، فإنه يلزمه البناء عل اليقين احتياطا، فالاحتياط هنا هو اليقين.
ومن قال لزوجته: أنت طالق وكررها ثلاث مرات، فاليقين طلقة واحدة، والاحتياط ثلاث، والاحتياط أيضا من جهة أخرى واحدة.
ثانيا: من صور الاحتياط في الشريعة
الصورة الأول: سد الذرائع الموصلة إلى المحرم، وسد الذريعة من الاحتياط، ومنه قوله تعالى {ولاتسبوا الذي يدعون ين دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم}، وقوله تعالى {فلا تخضعن بالقولفيطمع الذي في قلبه مرض}، ومنه النهي عن تلقي الركبان.
الصورة الثانية: اطراح الشكوك والبناء عل اليقين، ومنه ما ثبت أن رجلا شكى إلى رسول الله-صلى الله عليه وسلم- أنه يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة؟ فقال: (لا ينفتل أو لا ينصرفحتى يسمع صوتا أو يجد ريحا)
الصورة الثالثة: التورع عما لا بأس به مخافة ما به بأس، ومنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مر بتمرة في الطريق فقال:
الصورة الرابعة: ترك العمل المندوب إذا خشي اعتقاد وجوبه، ومن أمثلة ذلك ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- صلاة التراويح بعد اجتماعهم عليها، وترك أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- للأضحية كراهة أن يقتدى بهما.
الصورة الخامسة: المعاملة بنقيض المقصود، ومن أمثلة ذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ليس لقاتل ميراث).
الصورة السادسة: تنزيل الأمر الموهوم منزلة الأمر المعلوم، ومن أمثلة ذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إذا قام أحدكم من النوم فأراد أن يتوضأ، فلا يدخل يده في وضوئه حتى يغسلها، فإنهلا يدري أين باتت يده)
ثالثا: أقسام الاحتياط من حيث الحكم
يجرى على الاحتياط الأحكام التكليفية من الوجوب والاستحباب والكراهة والتحريم.
أولا: الاحتياط الواجب، وهو يشمل أربع قواعد ذكر ابن القيم ثلاثة منها، وهي قاعدة اختلاط المباح بالمحظور حسا، وقاعدة اشتباه الحلال بالحرام، وقاعدة الشك في العين الواحدة هل هي من المباح أم من المحظور، وتضاف قاعدة أخرى، وهي: تنزيل الغالب منزلة المتحقق.
أما اختلاط المباح بالمحظور حسا، فالمحرم إما أن يكون محرما لعينه كالدم والبول ونحوها، أولكسبه كأكل الربا ونحو ذلك.
فما كان حراما لعينه إذا اختلط مع المباح، فله صورتان:
1- أن يظهر أثره في المباح حال المخالطة، فحينئذ نغلب التحريم، ونترك المباح، ونعده محرما منجهة الاحتياط، لا من جهة انقلاب الحلال حراما.
وفي هذه الصورة يكون الاحتياط واجبا؛ لأننا لا نستطيع ترك الحرام إلا بترك المباح، وما لا يتمالواجب إلا به فهو واجب، مثاله: إذا خالطت النجاسة ماء فغيرته، وجب اجتنابه.
2- أن يستهلك الحرام في المباح، ولا يظهر أثره فيه، فهذه الصورة اختلف فيها العلماء، والذي عليه المحققون كالقرافي وابن تيمية وابن القيم والسيوطي أنه لا يتوقف الإنسان عن مباشرة الحلال إذااستهلك المحرم فيه وانغمر، ومن أمثلة ذلك: أن الطيب محرم على المحرم، ولكن لو أكل شيئا فيه طيبقد استهلك، لم تجب الفدية.
أما ما كان محرما لكسبه، فهو حرام على الكاسب وحده على الصحيح.
أما قاعدة اشتباه المحرم بالمباح والتباسه به، فإذا اشتبه على المكلف الحلال بالحرام فإنهيجب أن يقدم الاحتياط في ذلك، فيجتنب المباح إن كان في اجتنابه سعة، ولهذا الاشتباه حالتان:
الحالة الأولى: أن يوجد بدل عنها ينتقل إليه المكلف، فإنه يجب عليه حينئذ الانتقال، وهذا هو عينالاحتياط؛ لأن التحري هنا قد يوقع المكلف في الحرام وهو في غنية عنه، والاحتياط ترك ذلك كلهخشية الوقوع في المنهي عنه، ومن أمثلة ذلك: إذا اشتبه ماء طاهر بماء نجس فإنه ينتقل إلى التيمماحتياطا، وقال بعض العلماء يتحرى، ومثله إذا اشتبهت أخته أو محرمة عليه بأجنبية عنه فإنه يكفعنهما احتياطا.
الحالة الثانية: ألا يوجد بدلا عنها ودعت الضرورة إلى استخدام أحدهما فحينئذ يسقط الاحتياط، ويتحرى في أقربها للجواز، ومثاله: لو اشتبهت عليه ميتة بمذكاة ولم يجد غيرهما، فإنه يتحرى ويأكلما يغلب عل ظنه حله، ومثله إذا اشتبهت عليه القبلة.
أما قاعد الشك في العين الواحدة هل هي من قسم المباح أو المحظور، فهو على صورتين:
الصورة الأولى: إذا ورد شك سببه تعارض دليلين أو أصلين، فيقدم الأحوط منها إذا انعدم المرجح، كما لو تعارض دليل يفيد التحريم مع دليل يفيد غيره من إباحة أو كراهة أو إيجاب أو ندب، فإنهيقدم ما يفيد التحريم عل غيره.
الصورة الثانية: إذا ورد الشك العارض بسب اشتباه أسباب الحكم وخفائها، أو لعدم معرفتهبالسبب القاطع للشك، فإنه يستحب حال ما قبل الشك إن وجد، كما لو أحدث ثم شك هل توضأ بعدالحدث أو لا؟ فإنه يكون محدثا، فإن لم يكن هناك حال يستصحبها، فيحتاط بترك المحرم.
أما قاعدة تنزيل الغالب منزلة المتحقق، فمثاله: عدم جواز الصلاة بثياب الكافر؛ لأنه فىالغالب لا يتوقى النجاسة، والغالب كالمحقق
ثانيا: الاحتياط المندوب، وضابطه: ترك ما يستريب الإنسان ويشك فيه، وفعل ما يستيقن منهويطمئن إليه، ومن صوره ما يأتي:
1- الخروج من الخلاف عند تقارب المآخذ، ولكن لا بد في الخروج من الخلاف ألا يعارضه رخصةشرعية، وأن يقوى مأخذ الخلاف في المسألة، ولا يكون الخلاف عن شذوذ، ومنه ما قاله الحنابلة مناستحباب صلاة الجمعة بعد الزوال؛ خروجا من الخلاف، مع أنهم يقولون بجواز صلاة الجمعة قبلالزوال، ومنها أنه لا يزيد على أربع تكبيرات في صلاة الجنازة؛ لأن أكثر أهل العلم يقولون ذلك.
2- فعل كل مصلحة متوهمة واجتناب كل مفسدة متوهمة، ومن أمثلته: أن من شك في عقد من العقودسواء لاختلال شرط فيه أو ركن من أركانه، فيندب له إعادة العقد بشروطه وأركانه، ومنها: لو شك فيوجوب الشيء وعدم وجوبه، فهذا لا يوجب الفعل؛ لأن الأصل براءة الذمة حتى يثبت دليل التكليف،ولكن يورث شبهة يستحب الاحتياط لها.
قال ابن تيمية: "فإن المشكوك في وجوبه كما لو شك في وجوب زكاة، أو كفارة، أو صلاة، أو غير ذلكلا يجب فعله، ولا يستحب تركه، بل يستحب فعله احتياطا"
ثالثا: الاحتياط المكروه، والمقصود بالمكروه هنا خلاف الأولى، أي الاحتياط الذي يؤدي إلىارتكاب خلاف الأولى، وقد أطلق الأصوليون والفقهاء عل خلاف الأولى لفظة الكراهة، وعدوا خلافالأولى من درجات المكروه، وفرق بعض العلماء بينهما أن المكروه يكون النهي فيه نهيا مقصودا مخصوصا بنص خاص، أما خلاف الأولى فيكون النهي فيه ليس مخصوصا فيه.
والاحتياط المكروه هو الاحتياط الذي يؤدي لترك الرخص الشرعية التي حث الشارع عليها، وندب إليها، فصار تركها خلاف الأولى، كما مثل الأصوليون على خلاف الأولى بصوم الحاج في عرفة.
رابعا: الاحتياط المحرم، وهو الاحتياط الذي يقود الإنسان إلى التنطع في الدين، وذلك بالعملبمقتضى شك وتقدير لا دلالة عليه، ولا سبب يقتضيه، فيخرجه ذلك إلى الوسوسة والتوهمات التي لاتستند إلى دليل.
والأصل في ذلك حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- مرفوعا: (هلك المتنطعون)
رابعا: ضوابط الأخذ بالاحتياط عند الأصوليين
أولا: ألا يعارض الاحتياط نصا من نصوص الشريعة، لأنه لا اجتهاد مع النص، ومثال ذلك حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- في الرهط الذي تقالوا عبادة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) [خ 5063، م 1401]
ثانيا: أن تكون الشبهة التي أدت إلى الاحتياط قوية ظاهرة، لأن الاحتياط لا يبنى على الأوهام والشكوك الضعيفة، ومن أمثلة ذلك أن من أتى إلى ماء لم يجد سواه ليتوضأ منه، فقال في نفسه: لعل نجاسة سقطت فيه قبل أن أرد عليه، وامتنع من الطهارة به، فإن ذلك ليس بممدوح؛ لأن الأصل طهارة المياه وعدم الطواريء.
ثالثا: أن يكون الاحتياط فيا ثبت وجوبه وشك في إيقاعه، أو كان بقاؤه هو الأصل، فمثال الاحتياط فيما ثبت وجوبه: من شك في صلاة فريضة هل صلاها أو لم يصلها؟ فإن الاحتياط يقتضي أن يصليها، بناء على أن اليقين لا يزول بالشك، فذمته لا تبرأ إلا بيقين أداء الصلاة، وهذا احتياط في أمر قد ثبت وجوبه.
ومثال الاحتياط في بقاء الأصل: من شك في اليوم الثلاثين من رمضان هل دخل العيد في ذلك اليوم أو لا؟ فالأصل بقاء رمضان، ولا يدفع هذا اليقين إلا بيقين مثله.
وبناء على هذا، فإن الاحتياط لا يكون فيما كان الأصل عدمه، ومثاله: صوم يوم الشك، فإن الحنابلة اختاروا صيامه احتياطا، والصواب أنه لا مدخل للاحتياط هنا، لأن الأصل عدم دخول الشهر. [الفروع 4/407]
ومثله إذا تيقن الطهارة وشك في الحدث، فالاحتياط لا يكون بالحكم على نفسه بالحدث، بل الأصل بقاء الطهارة.
رابعا: ألا يوقع العمل بالاحتياط المستحب الناس في الحرج والمشقة، وأما الاحتياط الواجب الذي لابد من المكلف فعله فإنه يعمل به؛ لأن الاحتياط لا بد وأن يعتريه شيء من المشقة والتعب.
ومما يدل على هذا الضابط أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ترك المشروع والمستحب خشية المشقة، ورفعا للحرج عن الناس، كما ترك صلاة التراويح في الليلة الرابعة.
خامسا: لا احتياط في العقائد، فإن مسائل الاعتقاد لا تبنى إلا على الأدلة الصحيحة، ولا مجال للاجتهاد فيها، والاحتياط من قبيل الاجتهاد، وبناء عليه فلا يجوز إثبات اسم لله تعالى أو صفة احتياطا.
سادسا: ألا يؤدي العمل بالاحتياط إلى الوسوسة.
سابعا: أن يتحقق المقصود من الاحتياط، وهو العلم بإتيان الواجب أو ترك الحرام، وإلا كان الاحتياط مشقة، ومثاله: من خفي عليه موضع نجاسة في ثوب فإنه يجب عليه غسل جميع الثوب احتياطا؛ لأنه لا يتحقق مقصود الاحتياط إلا بذلك.
ثامنا: إذا تعارض احتياطان، قدم الأقوى، ومثاله: إذا أوقع طلاقا، وشك في العدد، فقد ذهب الإمام مالك إلى أن من طلق زوجته ولم يدر كم طلقة طلقها فإنها تحرم عليه حتى تنكح زوجا غيره، تنزيلا للعدد المشكوك فيه منزلة الثلاث، واحتياطا حتى لا يستباح الفرج مع الشك.
غير أن هذا الاحتياط قد عارض احتياطا أقوى منه في النظر، وهو أنه إذا أوقعنا الطلاق، فإننا سنبيحها للتزوج من شخص آخر مع بقاء الشك في طلاقها من الأول، فالاحتياط ألا يستباح فرجها من الثاني مع الشك، لا سيما مع استصحاب الأصل وهو بقاء النكاح.