الأحد 4 ربيع الأول 1446
حكم الماء إذا خالطه شيء نجس
الإثنين 11 أكتوبر 2021 2:00 مساءاً
742 مشاهدة
مشاركة

خلاصة هذه المسألة، أن الماء إذا خالطه شيء نجس، وتغير الماء بسبب هذه المخالطة، فإن الماء يصير نجسا، أما إن لم تتغير أحد أوصاف الماء فإنه يبقى طهورا

وهذا تفصيل المسألة:

** اتفق الفقهاء على أن الماء إذا خالطته نجاسة وغيرت أحد أوصافه كان نجسا سواء أكان الماء قليلا أم كثيرا، وقد نقل الإجماع على ذلك ابن المنذر والإمام الشافعي والنووي وابن عبد البر وابن تيمية والشوكاني وغيرهم، ومستند هذا الإجماع حديث أبي أمامة الباهلي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه) [جه 521، وضعفه الشافعي والدارقطني والبيهقي والنووي وابن الملقن والعراقي وغيرهم]

** إذا تغير الماء بمجاورة نجاسة كما لو كانت هناك جيفة ميتة بجانب قدر ماء، وتغير لون الماء بسبب الجيفة، فالماء طهور، لأن هذا تغير بمجاورة وليس بممازجه، وهذا التغير الذي حصل إنما كان بسبب طبيعة المكان الذي فيه الماء،. وليس بسبب اختلاط شيء نجس بالماء.

** إذا خالط الماء نجس، ولم تتغير أوصافه فاختلف العلماء على أقوال: 

القول الأول: أنه لا ينجس، وهو الراجح، وهو قول أهل المدينة، ورواية المدنيين عن مالك وكثير من أهل الحديث، وقول للشافعي، وإحدى الروايات عن أحمد، اختارها طائفة من أصحابه، ونصرها ابن عقيل، وهو اختيار ابن تيمية وابن القيم وابن دقيق العيد والشوكاني، واستدلوا بما يأتي: 

1- أن الله أباح الطيبات وحرم الخبائث، فإذا كانت صفات الماء وغيره صفات الطيب دون الخبيث، وجب دخوله في الحلال دون الحرام.

2- ثبت من حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: (أنتوضأ من بئر بضاعة، وهي بئر يلقى فيها الحِيَض -جمع حِيضة وهي الخرقة التي يكون فيها دم الحيض- ولحوم الكلاب والنَّتْن -أي كانت تجرفها إليها السيول من الطرق والأفنية ولا تطرح فيها قصدا-؟ فقال: الماء طهور، لا ينجسه شيء) وهذا اللفظ عام في القليل والكثير، وهو عام في جميع النجاسات.

3- عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: (جاء أعرابي فبال في طائفة المسجد، فزجره الناس فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قضى بوله أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بذنوب من ماء فأُهريق عليه) [خ 221، م 284]

ووجه الدلالة أن هذا الماء قليل، ومع ذلك جعله النبي -صلى الله عليه وسلم- مطهرا لبول الأعرابي، قال في المنتقى شرح الموطأ: "وهو حجة على أبي حنيفة والشافعي وغيرهما في قولهم أن قليل الماء ينجسه قليل النجاسة وإن لم تغيره، وهذا مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وهو أرفع المواضع التي يجب تطهيرها وقد حكم فيه النبي صلى الله عليه وسلم بصب دلو من ماء على ما نجس منه بالبول ولا معنى له إلا تطهيره للمصلين فيه" 

أما الانفكاك بالتفريق بين ورود النجاسة على الماء، وورود الماء على النجاسة، فهو فرق غير مؤثر ولا دليل عليه.

4- أنه لو وقع خمر في ماء واستحالت، ثم شربها شارب لم يكن شاربا للخمر، ولم يجب عليه حد الخمر إذ لم يبق شيء من طعمها ولونها وريحها، ولو صب لبن امرأة في ماء واستحال حتى لم يبق له أثر وشرب طفل ذلك الماء، لم يكن ابنها من الرضاعة بذلك.

5- أن المياه من المسائل التي تكثر حاجة الناس إليها في طهارتهم وأكلهم ومنافعهم، ولو كانت الشريعة تفرق بين القليل والكثير لبينت ذلك بيانا واضحا.

القول الثاني: أنه ينجس قليل الماء بقليل النجاسة، وهي رواية البصريين عن مالك، وحدد المالكية القليل بأنه إن تغير لونه أو طعمه أو ريحه فهو قليل، وإن لم يتغير فهو كثير.

القول الثالث: أنه يفرق بين القلتين وغيرهما، وهو مذهب الشافعي، ومذهب الحنابلة عند المتأخرين، واستدلوا بما يأتي: 

1- عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: (سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يُسأل عن الماء يكون في الفلاة من الأرض وما ينوبه من السباع والدواب، فقال: إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث) وفي رواية ابن ماجة: (إذا بلغ الماء قلتين لم ينجسه شيء) [حم 4591، ت 67، ن 52، د 63، جه 517، دمي 732، وصححه ابن خزيمة والدارقطني وابن خزيمة والنووي وابن حجر، وضعفه آخرون كابن عبد البر، وأعله شيخ الإسلام ابن تيمية بالوقف على ابن عمر، وانظر مجموع الفتاوى 21/30، وشرح العودة على البلوغ 1/ 122] فهذا دليل على التفريق بين القليل والكثير، وأن القليل يحمل الخبث.

وأجيب عن هذا الاستدلال من وجوه: 

أولها: إن نجاسة ما دون القلتين مأخوذة من المفهوم والمفهوم لا عموم له، فيصدق بصورة واحدة، ومفهوم حديث القلتين وهو إذا كان دون القلتين تنجس أو حمل الخبث يصدق فيما لو تغير بنجاسة بالإجماع فيكون المفهوم معمولا به، وعموم قوله -صلى الله عليه وسلم- (إن الماء طهور لا ينجسه شيء) على أصله. [الفتاوى الكبرى 1/424، المستدرك على مجموع الفتاوى 3/14]

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والمفهوم لا عموم له في جانب المسكوت عنه، بل قد يكون فيه تفصيل كقوله: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث أو لم ينجسه شيء)، وهو إذا بلغ قلتين فقد يحمل الخبث وقد لا يحمله. وقوله (في الإبل السائمة الزكاة)، وهي إذا لم تكن سائمة قد يكون فيها الزكاة -زكاة التجارة-، وقد لا يكون فيها، وكذلك قوله: (من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)، ومن لم يقمها فقد يغفر له بسبب آخر. وكقوله: (من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)، وقوله تعالى تعالى: {إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله} ومن لم يكن كذلك فقد يعمل عملا آخر يرجو به رحمة الله مع الإيمان وقد لا يكون كذلك." [مجموع الفتاوى 33/14]

ثانيها: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر عن الحال الواقعة وأنه إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث ومفهومه أنه إذا كان دون ذلك فهو مظنة حمل الخبث، فإن وجدت المظنة رتب عليها الحكم وهو التنجس والمظنة لا تحصل إلا بتغير أحد الأوصاف.

ثالثها: في الحديث إشارة إلى أن العلة في التنجس هو حمله للخبث فوجب أن تكون هذه العلة هي الأصل في الباب، سواء أكان الماء قليلا أم كثيرا.

رابعها: إنه يلزم على ذلك أنه إذا سقطت قطرة بول في ماء دون القلتين بقليل تنجس وإن لم يتغير، وإذا سقط رطل بول في قلتين ولم يتغير الماء لم يتنجس، وهذا محال أن تأتي الشريعة بنظيره.

خامسها: إن القلة غير منضبطة، حتى عند من قال هي قلال هجر، لأن قلال هجر منها الصغير ومنها الكبير، ثم لا دليل على أن القلة هي قلة هجر إلا حديث ضعيف، وحديث المعراج في قوله -صلى الله عليه وسلم- عن سدرة المنتهى (فإذا نبقها مثل قلال هجر) وليس فيه دلالة لأنه لا رابط بين الحكمين، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- يحكي عن الواقع وهو أن نبقها مثل قلال هجر، لا لأن قلال هجر هي المعروفة المشهورة دون غيرها، وهذا كقوله عندما مثَّل بعض الأشجار إنها كأشجار في الشام تدعى الجوزة فلا يعني هذا أن الجوزة هي المعروفة بل النخلة أشهر منها، ولكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يحكي الواقع، فخواص العلماء مختلفون في تقدير القلة فما بالك بالعوام.

قال ابن القيم -رحمه الله-: "والاحتجاج بحديث القلتين مبني على ثبوت عدة مقامات: الأول: صحة سنده، الثاني: ثبوت وصله وأن إرساله غير قادح فيه، الثالث: ثبوت رفعه وأن وقف من وقفه ليسس بعلة، الرابع: أن الاضطراب الذي وقع في سنده لا يوهنه، الخامس: أن القلتين مقدرتان بقلال هجر، السادس: أن قلال هجر متساوية المقدار ليس فيها كبار وصغار، السابع: أن القلة مقدرة بقربتين حجازيتين، وأن قرب الحجاز لا تتفاوت، الثامن: أن المفهوم حجة، التاسع: أنه مقدم على العموم، العاشر: أنه مقدم على القياس الجلي، الحادي عشر: أن المفهوم عام في سائر صور المسكوت عنه، الثاني عشر: أن ذكر العدد خرج مخرج التحديد والتقييد، الثالث عشر: الجواب عن المعارض ومن جعلها خمسمائة رطل احتاج إلى مقام، رابع عشر: وهو أنه يجعل الشيء نصفا احتياطا، ومقام خامس عشر: أن ما وجب به الاحتياط صار فرضا" ا.هـ 

2- عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعا: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا، فإنه لا يدري أين باتت يده) [خ 162، م 278 واللفظ لمسلم] ولفظ البخاري: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده)، ووجه الدلالة أن النهي عن إدخال اليد إنما هو لئلا يتنجس الماء القليل.

وأجيب بأنه لا دلالة فيه لمن ذهب إلى أن الماء القليل ينجس، لأن الحديث ليس فيه تصريح ولا إشارة إلى نجاسة الماء بل القول بنجاسته من أشذ الشاذ، وكذا القول بطهارته دون طهوريته ضعيف، ثم إن الطهارة ثابتة بيقين فلا تزول بالشك.

3- حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعا: (طَهورُ إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب) [م 279] فأمره بغسله دليل على تنجسه بمجرد الملاقاة.

وأجيب بأن الحديث ليس فيه دلالة على التحديد بالقلتين، والصواب أنه محمول على ما إذا ولغ في الآنية المعتادة، ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم- (في إناء أحدكم) وهذا هو الحمل الصحيح، وقد صرح شيخ الإسلام ابن تيمية بأن الكلب إذا ولغ في اللبن وكان كثيرا فإنه لا ينجس. [مجموع الفتاوى 21/531]، أما حمله على ما دون القلتين فضعيف وبعيد.

القول الرابع: الفرق بين البول والعذرة المائعة وغيرهما، فالبول والعذرة المائعة تنجس الماء بمجرد الملاقاة ولو كان كثيرا، إلا إذا كان يشق نزحه فهو طهور ما لم يتغير، أما غير البول والعذرة المائعة فإنها لا تنجس الماء إذا كان كثيرا ما لم يتغير، وتنجسه إذا كان قليلا بمجرد الملاقاة، وضابط الكثير هو القلتان، وهذا مذهب الحنابلة عند أكثر المتقدمين والمتوسطين.

واستدلوا بأدلة القول الثالث، واستدلوا على استثناء البول والعذرة المائعة، وأنها تنجس الماء بمجرد الملاقاة بحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعا: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه) [خ 239، م 282] وهذا يدل على أنه الماء ينجس بمجرد ملاقاة البول والعذرة المائعة.

وأجيب بما قاله شيخ الإسلام أن: "نهيه عن البول في الماء الدائم لا يدل على أنه ينجس بمجرد البول، إذ ليس في اللفظ ما يدل على ذلك، بل قد يكون نهيه سدا للذريعة، لأن البول ذريعة إلى تنجيسه، فإنه إذا بال هذا ثم بال هذا تغير الماء بالبول، فكان نهيه سدا للذريعة، أو يقال: إنه مكروه بمجرد الطبع لا لأجل أنه ينجسه.

وأيضا فيدل نهيه عن البول في الماء الدائم أنه يعم القليل والكثير فيقال لصاحب القلتين: أتجوز بوله فيما فوق القلتين؟ إن جوزته فقد خالفت ظاهر النص، وإن حرمته فقد نقضت دليلك. 

وكذلك يقال لمن فرق بين ما يمكن نزحه وما لا يمكن: أتسوغ للحجاج أن يبولوا في المصانع المبنية بطريق مكة؟ إن جوزته خالفت ظاهر النص، فإن هذا ماء دائم والحديث لم يفرق بين القليل والكثير وإلا نقضت قولك. 

وكذلك يقال للمقدر بعشرة أذرع: إذا كان لأهل القرية غدير مستطيل أكثر من عشرة أذرع رقيق أتسوغ لأهل القرية البول فيه؟ فإن سوغته خالفت ظاهر النص، وإلا نقضت قولك" [مجموع الفتاوى 21/34]

ويقال أيضا إن مقتضى هذا القول أن يكون بول الكلب والخنزير ليس له هذا الحكم، وبول الآدمي له هذا الحكم، وهذا لا شك باطل.

القول الخامس: أن الماء ينجس بملاقاة النجاسة، سواء أكان قليلا أم كثيرا، وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه، لكن إذا لم يصل إليه -أو يخلص إليه- فإنه لا ينجسه، ثم حدوا ما لا يصل إليه: بما لا يتحرك أحد طرفيه بتحريك الطرف الآخر، فهذا الكثير عندهم، والقليل ما يتحرك طرف منه يتحرك الطرف الآخر، واختلفوا في جهة التحريك فروى أبو يوسف عن أبي حنيفة أنه يعتبر التحريك بالاغتسال من غير عنف، وروى محمد عنه أنه يعتبر التحريك بالوضوء، وفي رواية باليد من غير اغتسال ولا وضوء.

القول السادس: قول أهل الظاهر، الذين ينجسون ما بال فيه البائل، دون ما ألقى فيه البول، ولا ينجسون ما سوى ذلك إلا بالتغير.

وهذا القول ضعيف، قال شيخ الإسلام: "وأما من فرق بين البول فيه وبين صب البول فقوله ظاهر الفساد، فإن صب البول أبلغ من أن ينهى عنه من مجرد البول، إذا الإنسان قد يحتاج إلى أن يبول، وأما صب الأبوال في المياه فلا حاجة إليه."

ومنشأ الخلاف هو أن اختلاط الخبيث -وهو النجاسة- بالماء هل يوجب تحريم الجميع، أم يقال: بل قد استحال في الماء، فلم يبق له حكم.